هالة الناصر
طغى العالم الرقمي على عالمنا الحقيقي، أصبحت حياتنا حياة من البلاستيك مثل الورود الصناعية، تم إفراغها من لونها ورائحتها، لم يعد لاجتماع العائلة طعم، لم يعد لاجتماع الأصدقاء طعم، حتى وجبات الطعام تلك التي كان لها حميمية أصبحت تداهمها كاميرات الهاتف المحمول قبل الأيادي ولم يعد لمنظرها الحقيقي قيمة، بل الأهم كيف ستظهر في التصوير، أراقب الجلسات بكافة أنواعها فأجد بأن الهاتف المحمول هو المتحدث الوحيد فيها وهو الأهم، حتى انتباه الآخر بما تقول يكون مقروناً بمدى تفاعله الأهم بالرسائل والمقاطع التي تأتيه عبر هاتفه المحمول، أصبح هذا الجهاز الصغير هو السجن غير المرئي الذي حبسنا في قفصه وتركنا نحوم داخله مثل أربعة جدران مرسوم عليها مناظر طبيعية لتشعرك بأنك حر طليق وفي الحقيقة ما أنت سوى سجين مكبل بين أربعة جدران هاتفك المحمول، حتى خطر الانزلاق الغضروفي الذي انزلق على رقابنا وأصبح مرضاً شائعاً من أمراض العصر لم يقنن من وقتنا المهدور الذي نقضيه داخل سجن هواتفنا المحمولة، حتى خطر الإصابة بعدة أمراض أخرى قد يسببها كثرة التعرض لأشعة هذا الجهاز الصغير لم تقنن من وقت استخدامنا له، أصبحنا لا نستطيع العيش بدونه، تستطيع فقدان كل شيء والاستغناء عنه إلا فقدان موبايلك، تشعر بالضياع وبأنك أصبحت منفياً من الدنيا وكأنك تهت في صحراء قاحلة تطلب النجدة بهلع وخوف من الموت مختنقاً، حتى بيتك مهما كانت غرفه كثيرة وصالته واسعة يقوم هذا الجهاز بسحب جميع أفراد الأسرة من غرفهم ليسجنهم داخل جدرانه الأربعة، ترى حتى أصغر أطفالك أم عينيك وهو يتلاشى داخل هذا الجهاز الرقمي دون حول منك ولا قوة، سيتحول منزلك إلى منزل كئيب فور أن تقرر ترشيد استخدام الأجهزة الإلكترونية في بيتك، تراقب نظر أطفالك وهم يتوسلون لك بصمت ينتظرون أن تسمح لهم بعزل أنفسهم مع أجهزتهم وألعابهم ليقفلوا على أنفسهم باب هذا الجهاز الخبيث، حالة من الإدمان تفوق قدرتك على معالجتها أو حتى الحد منها، كانت السنوات التي يحياها الإنسان لنفسه قليلة في الأصل وأتى الهاتف المحمول ليسرقها جميعها رغماً عنا، صارت مشاعرنا رقمية وكلماتنا بدون أكسجين وحياتنا بلا حياة!