د. حمزة السالم
الجرأة في العقول والشجاعة في القلوب. فلا إبداعية إلا بجرأة عقل، ولا فروسية إلا بشجاعة جسد. فالجرأة هي إقدام العقول، والشجاعة إقدام القلوب. ونادرًا ما تجتمع الجرأة مع الشجاعة في نفس واحدة.
جميع الثورات العلمية، التي كانت سببًا في كثير من التغيرات الكبرى في الثقافات الاجتماعية والسياسية، أصلها فكرة مخالفة للمألوف، أو نظرة من جانب مختلف، ولولا جرأة صاحبها لما كان لها أن ترى النور. فكم من عالم نحرير قد بانت له طرف حقيقة علمية في أحد أبحاثة، أو موظف ذكي، قد تبيَّن له خطأ طريقة متعارف على اتباعها في منظمته، أو مسؤول نبيه، رأى فسادًا خفيًّا متجذرًا، فإما أن يخشوا من أنفسهم فلا يثقون بعلومهم أو منطقهم، أو يخافون من جهل أو حسد أو مكر مجتمعهم العلمي أو الوظيفي أو العام؛ فيحمدون السلامة؛ فيؤثرون الصمت والسكينة خوفًا من عواصف الرفض التي سيثيرها عليهم أندادهم حسدًا وغيرة، أو جهلاً وظلمًا، أو القيام بالتحزب ضدهم من أجل كسب مصالح بموافقة من يتحزب معهم؛ فلا تتغير الأمور، ولا تتطور العلوم، ولا تنهض الأمم؛ وذاك لأن الإبداع تغيير، والتغيير سيتبعه حتمًا تحوُّل في سياسة وثقافة المنظمة؛ فهو إذًا تغيير لغالب المألوف في المنظمة، وهذا ما تقصر شجاعة الفرسان دونه، بينما تقدم العقول عليه.
فإما أن يوفَّق جريء الفكر بنبلاء ينصرونه ويعينونه؛ فينهضوا جميعًا بأمتهم، كما نصر نبلاء ألمانيا مارتن لوثر؛ فتجاوز شرفهم الزمان والمكان، فالنبيل هو الشريف.. وإما أن يُعدم النُّبل في قومه؛ فتظل أممهم في ذيل الأمم، تتسلى بوهم العظمة، كهِرٍّ يحكي انتفاخًا صولة الأسد.
وكما أن جرأة العقل قد تكون في المجنون كما تكون في المبدع، فكذلك هي شجاعة الجسد، تكون في الفارس، وتكون في الأحمق المقامر. فكل من لا عقل له سيعوض نقص عقله في شجاعة جسدية من نوع أو بآخر. فإما تراه شجاعًا في زج نفسه في المغامرات بأنواعها، أو «يتمشجع» بإظهار شجاعته في ظلم الآخرين والتسلُّط عليهم، أو بالانتصار لتقاليد بالية.. أو قد يظن الأحمق أن الشجاعة في الخروج على النظام الأمني بسرقة أو إرهاب أو اختلاس. والخسيس يرى الشجاعة في خسائس الأمور، كمطاردة النسوة، والكذب ونحوها.. فغياب العقل يخلق فراغًا في النفس البشرية، لا بد من تعبئته.
وفي القديم كانت الشجاعة الجسدية هي العامل الأهم في عزة حياة الإنسان، ثم مع موضة انتشار القوميات والأيديولوجيات صارت الجرأة الفكرية هي العامل الأهم.
وشاهد الكلام: إن من عرف وحشية الأمريكان ودمويتهم أثناء اقتتالهم فيما بينهم أثناء الحرب الأهلية لن يتخيل أبدًا أنه بمجرد أن تحط الحرب أوزارها سيقوم جميعهم فيبنون في عقود بسيطة أعظم إمبراطورية حضارية عرفها التاريخ. وما كان ذلك أن يتحقق لولا اجتماع الجرأة الفكرية والنبل في إبراهام لينكون؛ فكَثُر فيهم النُّبل والإبداع. ولهذا لم يطُلْ استعباد البيض الأمريكان للهنود الحمر، وللصينيين، وتقتيلهم وتشريدهم، حتى صاروا يكرمونهم ويقدمونهم.
وبجانب ما مضى، فمن عرف ظلم وفجور وفسوق البيض الأمريكان ضد السود حتى الستينيات، ثم رآهم في خمسة عقود، وقد نصَّبوا عليهم رئيسًا أسود، وسوَّدوا زوجة سوداء على نسائهم.. فمن تأمل في القفزات الحضارية الإنسانية التي حققها هذا المجتمع المتوحش حينها يتأكد له «إنما ينهض بالأمم نبلاؤها وعدُولها».