د. محمد بن إبراهيم الملحم
وصلتني رسالة لأخت فاضلة في وسائل التواصل الاجتماعي حول قصة بإحدى مدارسنا تستحق التوقف، والحديث عن الفقر والحياة التعليمية، ومع أني أؤمن أن للفقر درجة من التأثير على التفوق من حيث توافر الإمكانات وكذلك درجة وعي ومعرفة الوالدين مما يقلل من إضافتهما الضرورية لعملية التعلم فيقتصر الإنجاز على المدرسة فقط.. ولكن وجود هذه الحالة لدينا دون أن يكون لها معالجة ذات قيمة هو ما دعاني إلى تدوين هذه السطور، فالنص الذي قرأته حرك مشاعري وسأترككم معه بتصرف بسيط للاختصار:
«في جعبة كل معلم مواقف فريدة مع طلبة العلم.. فبينما كانت إحدى المعلمات تتأهب لدخول الفصل استعدادًا للحصة الرابعة، لاحظت وجود طالبة وحدها في الفصل ولما سألتها أجابت لدي صداع مزمن، فسألتها: هل أخذت مسكنًا لذلك، أجابت الطالبة لا، فسألتها: هل تناولت الإفطار، لأحضر لك مسكن.. فأومأت الطالبة بالنفي، فأحضرت لها وجبة إفطار وذهبت مسرعة لمكتبها وأحضرت حبة المسكن لتجد أن الطالبة أنهت الوجبة في وقت قياسي، فناولتها المسكن ودعت لها بالشفاء، ثم قابلتها المرشدة الطلابية لاحقًا شاكرة لها حسن صنيعها وقائلة: إن اكتشفت طالبات أخريات مثل حالتها فأخبريني لأننا اكتشفنا أن هذه الطالبة تحتاج إلى المعونة الشهرية حيث دخل رب الأسرة المتقاعد 1300 ريال وعدد أفراد الأسرة 11 فردًا... اعتلى الحزن وجه المعلمة قائلة للمرشدة: هذا الصداع من شدة الجوع وليس لديها مصروف لشراء الوجبة، وهذا يفسر سرعتها الفائقة في تناول الوجبة لأنها كانت تتضور جوعًا! ثم أخبرتها المرشدة أن معظم الطالبات متعففات فلا تعرف عنهن... «
ويمضي النص في محاولة المعلمات تدبير طريقة للحصول على المال الخيري فهؤلاء الطالبات بحاجة إلى الدعم في مرحلتهن الثانوية الحرجة، وبعيدًا عن التفاصيل فقد تمكنت المعلمات من ذلك باجتهادهن وحرصهن وقمن بدورهن الإنساني كأمهات قبل أن يكن مجرد ناقلات للمعرفة والمهارات العلمية وللقصة بقية ولكن دعونا أولاً نغمض أعيننا قليلاً ونعيش الحدث وكيف يمكن أن يكون العوز عائقًا للتعلم لتتصور طالبًا أو طالبة يمر اليوم الدراسي بأكمله وهو جائع بانتظار الوجبة الوحيدة في الظهر ولا أدري ما هي هذه الوجبة أيضًا! والمؤلم إخفاؤهم عن الزملاء أنهم لا يأكلون سوى وجبة واحدة يوميًا ومختلفة تمامًا عمّا يمكن توقعه، خبز بالشاي أو مجرد رز دون أية لحوم مثلاً! الفقر مسألة اجتماعية لا بد منها ولا يمكن التخلص منها تمامًا، ولكن تأثير الفقر على التعلم والتفوق يجعل من الفقر مشكلة مركبة لأن التعلم هو سبيل الفقير (أو الأسرة الفقيرة) للنهوض مما هم فيه، التعليم، بل التفوق في التعليم هو سبيلهم الوحيد، بينما الفقر ينهش هذا التعليم ويلاحقهم حتى في المدرسة، كيف يمكن للمدرسة أو تكون مكانًا صحيًا وآمنًا للطالب، كيف يمكن أن نتجاوز هذه الأزمة ونحل مشكلة الفقر من خلال التعليم، ومع أن كلمة الفقر ذاتها «نسبية» فإن مظهره في دولة من دول العالم الثالث مثلاً يختلف بالتأكيد عنه لدينا في دولة نفطية، لكنما أثره واحد، فالإنسان يشترك مع أخيه الإنسان في أي بيئة في الحاجات الطبيعية، التي بدونها لا يمكنه أن يحقق الإنجاز، القصص التي نعرفها عن فقراء حفروا طريق النجاح وتفوقوا قاهرين الفقر لا يجب علينا أن نتجاوز الإشادة بها وبأبطالها المميزين إلى تقرير ضرورة تعميمها على كل فقير، لا يجب أن ننظر إلى كل فقير أنه «يجب» أن يكون نفس ذلك البطل الذي شاهدناه في أفلام الأبيض والأسود أو قرأنا عنه قصة ملهمة، كلمة «يجب» هذه ربما لا تقولها ألسنتنا ولكن يقولها وعينا الخافي فيطالب داخلنا الفقير بحل مشكلته من دون رعايتنا، وهنا المشكلة، ولذلك لا تمثل هذه القضية عند كثيرين ممن يصنعون القرار أمرًا مهمًا بسبب هذه النظرة المتأصلة، وهي برمجة نفسية غير عادلة لقضية الفقر وأجزم أن المادة الأدبية التي أكسبتنا هذه النظرة السطحية لم تقصد أن تبرمجنا ضد الفقر بهذه الطريقة.
عمومًا أترككم مع خاتمة القصة بالنص الأصلي:
«في آخر يوم من اختبارات المرحلة الثانوية جاءت زميلة لمعلمة المادة قائلة: هناك طالبة تسأل عنك لدى الباب، وكانت المفاجأة أن تلك الطالبة الخلوقة الهادئة تقف باستحياء وفي يدها مغلف هدية، قدمتها لمعلمة المادة شاكرة بقولها: أرجو منك أن تقبلي مني هذه الهدية البسيطة.. وفي مكتبها علقت المعلمة تلك الهدية المتواضعة والكبيرة في قيمتها وكانت: لوحة لغروب الشمس على ضفاف الشاطئ القرمزي...»
انتهى النص، ولم ينته الفقر..