د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** عدَّد بعضُ العلماء المتقدمين الفِرقَ التي انقسمت إليها الأمة وورد في الأثر أنها ثلاثٌ وسبعون فقالوا إن كبارَها ثمانية: السُنَّة والشيعةُ والخوارج والمعتزلة والمُرجئة والجبريّة والمشبِّهة والنجَّارية، وأحصَوا في المعتزلة عشرين فرقة، وفي الشيعة اثنتين وعشرين فرقة، وفي الخوارج ستَّ فرق، وفي المرجئة خمسًا، وفي النَّجَّارية ثلاثًا، ولم يصلوا للرقم الذي نصَّ عليه الأثر، ولبعض العلماء قول حوله، أما الفرقة الناجية المستثناة من النار فهم أهلُ السنة والجماعة وذكروا منها: السلفية والأشعريّة والماتريدية.
** والباحث في الفواصل بين الفِرق الثلاث لأهل السنة والجماعة سيجد أن الأشاعرة والماتريديين متقاربون حدًا يصعب معه التمييزُ بينهما، ويصِلُ من يتأمل المسافة مع السلفيين إلى حصرِه في «الأسماء والصفات» من حيث حقيقتُها ومجازُها، وقد درَسْنا في المعاهد العلمية تفسير الجلالين «المحليَّ والسيوطيَّ» - وهما أشعريَّان - وكنّا نُنبه على مخالفاتهما اليسيرة، ويُعلم التفسيرَ لنا مشايخُ سلفيون لا مكان في إيمانهم لتأويلٍ أو مجاز، لكن الوضع آنذاك أذِن بتسامحٍ أكبر مما نشهده الآن، حيث امتلأت المحاضرات والكتابات بما يُوسّع الشُّقة وينأى بالتداني!
** البحثُ عن المشتركات وسيطٌ للتجسير والتيسير، وبخاصة بين أبناء النهج الواحد، غيرَ أنّ فينا من يخترعُ اختلافاتٍ وهميةً فيُذكيها، ويستعيد بها تأريخًا من الشجار الفارغ، والثقافة موطنٌ أفسحُ للتصادمات؛ ففي وقتنا ساد نقاشٌ غيرُ ذي بالٍ بين أدب الشيوخ والشباب والقديم والحديث، واستهجنَّاه في حينه ليقيننا أن الأجيال تتواصلُ وتتكامل، والشاب سيكتهل والجديد سيكتمل، وهو ما يعني عبثية الطرح من أساسه، ولذا فلا معنى لما يدور -عبر العالم الرقمي - من معايرة الكبير وتسفيه الصغير اتكاءً على شهادات ولاداتهم، ولو تأنَّى مثيرو الغُبار لأيقنُوا أن مدارس التقليد والتجديد مدارسُ متحركةٌ متناوبة.
** الحكاية لم تبدأ اليوم، إذ يروي بعضُ مؤرِّخي الأدب أن «ابن سلام الجُمحي» في «طبقات فحول الشعراء» آثر الأقدمين، وبنى «الجاحظُ» في «البيان والتبيين» - ويُسمى: «البيان والتبيُّن- نظرته للشعراء الذين استشهد بهم وفق معايير الجودة لديه، وكذا صنع «ابنُ قتيبة» في «الشعر والشعراء» مهملًا الزمن، وفي وقتٍ متأخرٍ عُدَّ مصطفى صادق الرافعي رمزَ القديم وطه حسين أيقونة الجديد، ومرَّت حقبةٌ في ثقافتنا المعاصرة والنصوصُ تسود إذا كان قائلُها من أرباب الحداثة، وواجهتها مدرسة «الأدب الإسلامي وشعر الدعوة»، وذهب أولاءِ؛ «طريفُهم وتالدُهم» ليمثّلوا أنفسَهم واتجاهاتِهم وبقي الإبداعُ في عليائه.
** اليوم نُعايش مرحلةً شبيهةً، ولن تكفيَنا سبعون أو ثمانون فرقةً لتسعَ خلافاتِنا؛ فبجانب المذهبية والطائفية والأدلجة والبرمجة والانتماء والارتماء فإن الفجوة بين «الثقافة الأصلية والفرعية» ستزيدُ الهُوّة من غير أن ينفعَ توددُ كبارٍ أو مجاملةُ صغار، والزمن سيُفرزُ انقساماتٍ جديدة، والأسعدُ من تقودُه مبادئُه فلا يلتفُّ مع الريح ولا يلتفتُ إلى التشريح وربما التشبيح.
** الفكرُ ينقسمُ فيقتسم.