د. حسن بن فهد الهويمل
في الشهر الثالث من عام 2019م، وجدتُ نفسي بدون مقدمات في أتون (تويتر)، حين بعثت موقعي القديم، من مرقده، ووجدت بعض القبول: مداخلة، ومتابعة، الأمر الذي أغراني بالإيغال في هذا العالم الغرائبي، دون تحفظ.
وحين مضيت، وجدت اختلافاً كثيراً، وتفاوتاً في كلِّ شيء، وساورني الشك في الاستمرار. لم أضق ذرعاً بالاختلاف، فالحياة قائمة عليه:
{وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}. فالاختلاف أكسير الحياة، ولا حياة بدون أخذ، ورد. يقول الإمام مالك: (كلٌّ يُؤْخَذُ مِنْ كَلامِه، ويُرَدُّ إلَّا صَاحِبَ هَذَا القَبْرِ)، يعني الرسول صلى الله عليه وسلم.
القول حين يطلقه المقتدر، أو الدَّعي يهز مُسَلَّمات المتلقي، وقناعاته، وعندئذ تتحرك عنده (المناعة الفكرية)، لتصد هذا المؤثِّر القولي، مثلما تتحرك (المناعة الجسدية)، لصد (الفيروسات)، وإبادة الجراثيم.
الحساسية، والتردد، والتوقف شيء طبعي عند كل إنسان، وبخاصة عند العامي المبرمج. فالناس يخافون من المستجد (ومَنْ جَهِلَ شيْئاً أنْكَرَه).
هذه طبيعة بشرية، وهي شيء من (عُقْدةِ الأبَوِيَّة): {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ}. ولكنَّها تتفاوت في مشروعيتها، ومستواها، وأسلوب ممارستها.
الصراع، والقلق ليس حكراً على مطلق الاختلاف، إنه في اختلاف المفاهيم، وتباين مستويات التفكير، بل هو في (التَّبَرْمُجِ)، وإلغاء الذات، بمعنى أن المتلقي في هذه الحالة لا حول له، ولا قوة. فهو قد اتخذ موقفاً صِيغَ له، وصِيغَ عليه، لا يحيد عنه. فكأنه يُوَجَّه بـ(الريموت).
المذهبية المتعصبة. والطائفية المتطرفة. والتسليم الأعمى للجاهزيات، تكاد تكون السمة الغالبة عند (ذوي المواقع)، ومن ثم يواجه المصلحُ المخلص الناصح بالتصدي، والتحدي، والصمود. وحاجته ماسَّةٌ إلى جَلَدِ المخالفين، ليتمكَّن من الصمود، والنِّديِّة.
ذلكم هو عالم (تويتر) تَتَرُّسٌ، ومخاتلة. وتصويب، وإرداء. تشكيك، وتخذيل. اتهام، وتصنيف.
خليط من أناسِي شتى، في عقولهم، ومعارفهم، وعقائدهم، وقومياتهم. وكل فئة ترى أنها (الأمَّةُ المَنْصُورَة).
لقد كشفت المواقع سوءات في الفكر، وسوءات في أسلوب التعامل مع القضايا المشتركة. إنه التناجي بالإثم، والعدوان، والمراء الذي لا تؤمن غوائله.
المصلحون مضطرون إلى الدخول في هذه الأندية، وإن أتي فيها المنكر. إنهم حملة رسالة، ولا بد أن يُبَلِّغوها. وبقدر المشقة يكون الأجر: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُون}.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم}.
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِين}.
فالابتلاء، والامتحان جزء من عملية الإصلاح، والأداء السليم: (ألا إنَّ سِلْعَةَ الله غَالِيَةٌ).
رسالة الإصلاح رسالة ثقيلة، وخطيرة: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}.
عالم (تويتر) عالم التغيير، والإثارة، والإمتاع، والاستمالة، والإقناع، والحمل على المراد.
مواقع بالملايين مجنَّدة للإفساد، ومثلها للتسلية، وأخرى للشغب، والإثارة، ومنها مجنَّدة للافتراء، والإيذاء، والقليل منها يحمل رسالة الإصلاح.
عوالم تتكشَّف على حقيقتها، وتتعرَّى على ما هي عليه.
المغرِّد يقول لسان حاله، ومقاله، تعالوا إلى ما أريد. وكل متلق له مراده، وإرادته، وإرثه، ومن ثم فمبدأ الاختلاف قائم من الأساس، وهو المجهر الذي يكشف التألق، والتفوق، والانطفاء، والإخفاق.
الإشكاليات دركات، لها بواعثها. وتدفق التغريدات بالملايين، لا تزيد المشاهد إلا خبالا. إنه قدر الحاضر العصيب. ما كنا نعرف من المؤثِّرات الفكرية، والسلوكية إلا البيت، والمسجد، والمدرسة. وأمام التقنية الحديثة خوت على عروشها.
قد يواجَه المغرِّدُ بمخالف يملك الندية، والأهلية، والحوار الحضاري. فيثري المعارف، ويصقل الأذهان، ويقدم للمتلقي قدوة حسنة.
وهذا هو المراد، لو توفر عليه كل المغرِّدين، والمداخلين. بل أكاد أجزم بأنه أفضل من الموافقة.
لأن مثل هذا الاختلاف يُنَقح القضايا، ويمحص المسائل، ويمكِّن الأطراف كلها من تحرير مسائلهم، وتأصيل معارفهم.
حتى الذين لم يشاركوا، تتوفر لهم المعارف، وتتجلَّى أمامهم الحقائق، ويستقرون على أرضية صلبة، لا على جرف هار.
أدواء هذا العالم كثيرة، ربما يكون من أهمها كثرة النكرات الجاهلة، المجهولة، التي لا يعنيها إلا الشغب، والإثارة، وبلبلة الأفكار، وتدنيس السمعة، وجر المسالمين إلى بؤر الشقاق، والنفاق، وسوء الأخلاق.
وتظل هذه التقنية الدقيقة مجال جدل حول مختلف القضايا: السياسية، والفكرية، والدينية، وتظل كَشَّافاً يسلط الضوء على كل مُتَداوِلٍ للقضايا.
(تويتر) رغم متاعبه، وخطورة سبله الملغمة، وأدمغته المفخخة أخَّاذ، يتهافت عليه المعنيون كالفراش. إنه أشبه بـ(الهيدبارك).
فمن أراد السلامة فليمسك عليه لسانه، وليرفع قلمه، وليطو صحفه، مكتفياً بالمتابعة الحذرة عن بُعْدٍ.