د.عبدالله بن موسى الطاير
عبارة مستهلكة ومسممة، ولكني مضطر لاستخدامها وهي «تغير قواعد اللعبة». العالم يسير في اتجاه معاكس للنظام الذي سار عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1946م. جيلان كاملان صمد فيهما هذا النظام، وهو يؤذن بالزوال.
عندما نشر هنري كيسنجر كتابه الموسوم «السياسة الخارجية الأمريكية» عام 1977م كان النظام العالمي فتيا، تقوده الولايات المتحدة من دون منازع، ولذلك فإن المؤلف قرر حينئذٍ أن أمريكا لا تملك سياسة خارجية وإنما تملك نظامًا ثقافيًا هو الأفضل للعالم ولديها القدرة على فرضه. وبصدور كتابه «النظام العالمي» عام 2014م كان الجيل الثاني لذلك النظام على وشك الأفول، مما جعل الكتاب يحمل وجهة نظر مغايرة.
أمريكا بنت نظامًا عالميًا يقوم على ثلاثة أسس هي الاقتصاد والأمن والليبرالية. النظام الذي صمد 70 عامًا كان نظامًا عالميًا ليبراليًا، تحررت فيه التجارة، وسيطرت العولمة وعلا خطاب الديمقراطية، وغلظت عصا الحريات. أول من هدد هذا النظام كان الرئيس الأمريكي اليميني رونالد ريجان الذي بدأ رئاسته الأولى عام 1980م.
التكتلات الاقتصادية التي تجبر التجارة والمال على المرور بالولايات المتحدة، وتجعل من سندات الخزانة الأمريكية المستقر الآمن لثروات الدول، وتنصب من البنك الدولي وصندوق النقد حارسين على طريقة عمل النظام الاقتصادي العالمي لم تعد بتلك القوة التي تمتعت بها طيلة العقود الماضية، وذلك بسبب تقهقر العولمة، وميل إدارة الرئيس الأمريكي الحالي لأن تكون أمريكا أولاً، وليس النظام الاقتصادي الدولي.
النظام الأمني الذي يجعل بيد مجلس الأمن مقاليد الأمور لم يعد فاعلاً بالطريقة التي تعامل فيها مع غزو العراق للكويت، وإنما أدت النزعات الوطنية والمصالح الضيقة إلى الحد من الإجماع الدولي على معالجة قضايا مثل سوريا واليمن وأوكرانيا. أما النظام الليبرالي فإنه يترنح بقوة بعد تخلي الإدارة الأمريكية الحالية عن خطط السابقين لها التي قضت بتدخلهم في شؤون الدول لفرض الديمقراطية وتغيير الأنظمة.
ترى الصين وروسيا بأن النظام العالمي الليبرالي يغفل مكانتهما وقوتهما، ولذلك فهو قاصر عن استيعاب مصالحهما، ويستغلان تراجع النفوذ الأمريكي لتقويضه، كما أدت العولمة إلى تفاقم عدم المساواة الاقتصادية والاختلالات المالية، الأمر الذي فشل صناع السياسات في علاجه، وعملت التقنيات التحويلية على تعطيل أسواق العمل والأنظمة السياسية. هذه التهديدات التي تحيق بالنظام العالمي رصدها Terrence Mullan من مجلس العلاقات الخارجية.
المؤتمر الذي عقده مجلس العلاقات الخارجية في منتصف 2019 لاحظ أن أهم مهددات النظام العالمي تتمثل في جودة القيادة العالمية الحالية. «إن غياب قادة أقوياء ومبدئيين وفاعلين على استعداد لفعل الشيء الصحيح - بغض النظر عن الحسابات السياسية قصيرة الأجل - أمر واضح». وبذلك فإن أية محاولة للحفاظ على ما تبقى من النظام العالمي الحالي وترميم ما فسد منه يتطلب قيادات استثنائية، وهذا غير متوافر بحسب ما صدر عن ذلك المؤتمر.
جرّب العالم عدة أنظمة غير النظام الليبرالي، وجميعها فشلت، واحتاج العالم إلى حربين عالميتين ذهب ضحيتهما ملايين البشر وخلفتا دمارًا واسعًا من أجل ولادة نظام عالمي جديد. كانت أوروبا مسرحًا لهاتين الحربين. العالم يخوض حربًا كونية أخرى ولكن هذه المرة في الشرق الأوسط، فأمريكا وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل تحترب في سوريا منذ عام 2011م، ولا ندري كم من الوقت ستستمر حروب الشرق الأوسط، ولا نعرف إلى أين سيمتد نطاقها الجغرافي قبل تشكل نظام عالمي جديد على أسس أكثر عدالة.
يصعب التصديق بتراجع القوة الأمريكية، فما زالت مفاتيح النظام الاقتصادي بيدها، ولا تزال هي القوة العسكرية الأعظم في العالم، لكن هذا لا يعني أن دولاً مثل الصين وروسيا وأوروبا الجديدة بعد خروج بريطانيا منها، لا تبذل جهودًا للانعتاق الاقتصادي والأمني من القبضة الأمريكية. وبدون أدنى شك فإن سياسة البلطجة خارج النظام العالمي الذي بنته أمريكا، وحافظت عليه سبعة عقود ستلحق الضرر أولاً بالولايات المتحدة الأمريكية نفسها.
قواعد اللعبة تتغير وبسرعة، فالقضايا العادلة لم تعد كذلك، والعلاقات التقليدية توشك على الانفجار، والتصرف المسؤول خارج نطاق المصالح الوطنية الضيقة أصبح نادرًا. ما ننتظره هو المزيد من القتل في الشرق الأوسط، والمزيد من استهداف الأنظمة، والكثير من الفوضى في مخاض عسير لنظام عالمي قد لا يأتي قريبًا.