عمر إبراهيم الرشيد
شكَّلت المقاهي منذ نشأتها في الوطن العربي قبل مئات السنين، ومن ثم انتقالها إلى منطقة الحجاز فيما بعد، نوادي اجتماعية لأهل الحي، يلتقون في مقهاهم، ويتبادلون الأخبار، ويعقدون الصفقات، بل عقود الزواج أحيانًا.. ثم تطوَّر دورها ليشمل الثقافة البسيطة والترفيه عن طريق الحكواتي لسرد أمهات القصص العربية، مثل عنترة والزير سالم وزيد الهلالي، بطريقة درامية على قدر مواهب الحكواتي. إلى أن جاء الراديو فألغى دور الحكواتي، ومن ثم التلفاز، وصولاً إلى الثورة الإعلامية والرقمية. كل هذه الموجات من وسائل الإعلام والترفيه المتوالية والمتحولة والمقهى ثابت في أداء دوره الأصلي. على أن المقاهي كانت مقصدًا للكتّاب والصحفيين والقراء كذلك منذ بدايات القرن العشرين، ولكن مع الثورة الإعلامية والرقمية، والتحولات السياسية والاجتماعية في الوطن العربي، أصبحت المقاهي في غالبها أماكن لتمضية الوقت، إما مع الأصدقاء، أو بصحبة الجهاز اللوحي أو الهاتف المحمول.
وقد تعاظمت أعداد المقاهي في ميادين وشوارع مدن المملكة منذ مطلع الألفية الثانية، ولا تزال؛ فلم تعد محدودة الانتشار كما هي من قبل، إنما ظلت أماكن التقاء رتيبة مع انتشار أسماء تجارية عالمية، وعدم وجود مقاهٍ شعبية أو اجتماعية كما كان قديمًا. في السنوات الأخيرة أضفت بعض المقاهي جوًّا ثقافيًّا بوضع مكتبة صغيرة لمرتاديها القراء ورفاق الكتب، وتشجيع الجمهور على القراءة. إنما مع إطلاق مرحلة التحول الوطني، ومن ضمنه التنمية الثقافية والاجتماعية، وتشجيع المبادرات والأندية والفعاليات الثقافية، سعدتُ بمشاركتي في أمسية، نظمها نادي بصيرة الثقافي، تُعدُّ -في نظري- تغييرًا مبهرًا في طبيعة دور المقهى لدينا، مع علمنا بالدور الثقافي والأدبي الذي أدته المقاهي في العالم، ولا تزال. وحين يستقطب نادي بصيرة الكتّاب والمثقفين للحديث عن مؤلفاتهم، أو عن كتب عالمية متنوعة، ويجمعهم المقهى بالقراء، فإنه بذلك يقدم الثقافة على طبق سهل الهضم، ودون تكلف أو أجواء أكاديمية صارمة، بل في مكان هو أبعد ما يكون عن الكلفة والتعامل الرسمي. وفي هذا إعادة إحياء دور المقهى الإنساني والثقافي، بدل الجمود والرتابة واعتبار المقهى مجرد مكان لتزجية الوقت لا أكثر. ولا أبالغ إنْ قُلت إن هذه الأمسية الثقافية هي من عوامل أنسنة مدننا وبلداتنا على امتداد الوطن، بل في أي دولة. وقد خرجتُ من المقهى ولدي شعور غامر بأن تلك الأمسية من أجمل وأهم الفعاليات التي تثري المجتمع، وتبني الوعي؛ لأن بناء الإنسان قبل بناء الجدران. القراءة للارتقاء والاحتفاء بالكتاب بمختلف أشكاله من ركائز بناء الشعوب وتقدُّمها، مهما بلغت الثورة الرقمية من تمدد. وأمة تقرأ أمة ترقى. شكرًا نادي بصيرة!