نوف بنت عبدالله الحسين
أصبحت المبالغة سمة أساسية في أيامنا لدرجة الإنهاك، المبالغة في الضيافة، المبالغة في تقديم الهدية، المبالغة في ردات الفعل، المبالغة في الفرح، المبالغة في الحزن، والمبالغة في استخدام الأجهزة ووسائل التواصل، بل والمبالغة في التوثيق الذي لا يتوثّق، وفي السخرية وفي المدح وفي التنمر وفي كل شيء.
لست ضد المبالغة في العطاء، لكن إذا أعطيت فلا تنتظر، وإلا فلا تبالغ في العطاء، ولست ضد المبالغة في البر، أو المبالغة في أعمال الخير، لكن بشكل يجعلك تشعر بالرضى حتى لا يضيع الأجر، فاعط دون منٍّ أو أذى.
لكن المبالغة في تفاصيل الحياة باتت مرهقة، المبالغة في التزيين، وفي حقن الفيلر والشفاه التي مازالت تنفخ والوجوه البلاستيكية التي امتلأت بوتكس واختفت الملامح الحقيقية لتأتي ملامح مشوّهة تحتاج دوماً إلى تصحيح لا ينتهي أبداً.
المبالغة في أثاثنا، في التحف التي تأتينا من الصين فتستمر الأفكار التي لا تنتهي، وتستهلكنا تلك التحف في سبيل التغيير، ويبدو أننا أصبحنا نجدد كثيراً إلى أن مللنا من التجديد.
المبالغة في تزيين الأطباق، المبالغة في جعل الصحون أشبه بلوحات فنية، والمبالغة في جعل وجبات أطفالنا رسوماً متحرّكة حتى نقنعهم بأن الأكل لذيذ كشكله تماماً.
المبالغة في المشاعر الإيجابية لدرجة الاستهلاك، والمبالغة في قصص الطاقة واللعب على الوتر الحساس والقصص المبالغة في رحلات الكفاح والنجاح والصعوبات والمشقات، وتدوين النوايا وما تخبرنا به الأبراج وخزعبلات الغيبيات، والشاكيرا وأخواتها.
المبالغة في شراء حقائب وأحذية بأسعار فلكية، والمبالغة في تكديس الخزانات بملابس تتوه وتغوص وننسى ارتداءها إلى أن تصبح قديمة رغم جدّتها!.
هنا نطرح السؤال الغائب.. متى نقتنع؟!
أظن بأننا في حاجة إلى عودة البساطة إلى حياتنا قليلاً، أن نبسّط لقاءاتنا واجتماعاتنا، أن تصبح مناسباتنا متسمة بالبساطة، وأن نعيد بساطة الأولين المليئة بالفرح والبشاشة، أن نجتمع بهدف الاجتماع، لا من أجل التصوير، أن نلتقي على المودة والخير، وأن نعيد للحياة جمالها ببساطتها.
علينا أن لا ننظر لما لدى الآخرين، ليس بالضرورة أن تتشابه بيوتنا وأطباقنا، وليس بالضرورة أن نقيس اجتماعاتنا ولقاءاتنا بحجم الأطباق والأصناف، ولا حتى بحجم المجالس، لنستقبل الجميع بكل محبة، لنفتح بيوتنا وقلوبنا، ونفرح بالآتي، ونحفز الآخرين بزيارتنا والدخول إلى منازلنا (على قل الكلافة).
الناس تشبّعوا كثيراً من كل شيء، لكن لم يعد يستمتعون باللحظات، أصبحت ترهقهم المبالغات والتكلّف، وآن الأوان أن نقرّب المسافات، وأن نعيد زمن الجدّات، أولئك اللاتي لم تغلق أبوابهن يوماً، إلا بعد أن غادروا حياتنا، فابتكرنا حياة صعبة جعلتنا لا نرى كيف يمكن لها أن تستقيم بدون مبالغة!
لنوازن الأمر في كافة حياتنا، فلا إفراط ولا تفريط، لتكن حياتنا أبسط، حتى نستشعر التفاصيل، دون أن نفقد بريقها وقيمتها، وأن نكون أقرب للقلوب والنفوس، أن نستقبل الجميع برحابة صدر، دون تكلّف أو مبالغة، فالبيوت المفتوحة، هي البيوت الأكثر بهجة وأجمل مرتعاً والكل يدل مكانها بحب.
لنحب أنفسنا ونتقبّل أشكالنا ومصائرنا وأقدارنا، ونغتنم فرصة الحياة لتقديم الخير، لنبتعد عن ما يرهقنا من تفاصيل مؤرقة، ولنعيد للحياة بساطتها في كل شيء، دعونا نخفف من التصوير ونكتفي بأن نعيش اللحظات الجميلة دون مشاركة، وأن نفرح بما لدينا دون النظر بما لدى الآخرين، ولنكون كما نحب أن نكون لا كما يحب الآخرون، ولنتوقف عن المبالغة.