د.عبد الرحمن الحبيب
نظرًا لأن التغيير البيولوجي يحدث ببطء والتغيرات الثقافية تحدث في كل جيل، فمن العبث محاولة تفسير الظواهر المتغيِّرة للثقافة بواسطة ثابت عنصري. يمكننا بأحيان كثيرة شرحها من خلال الاتصال بالشعوب الأخرى، والعبقرية الفردية، والجغرافيا، ولكن ليس عن طريق الاختلافات العرقية.» الأنثروبولوجي روبرت لوي.
رغم أن دراسة الثقافات المحلية والشخصية للمناطق في الدول تزخر بها المكتبة الأجنبية، إلا أنه يندر وجودها بالمكتبة العربية. والأندر أن نعثر على إبداعات مضيئة عن الشخصية المحلية على غرار ما طرحه عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، وعالم الجغرافيا المصري جمال حمدان. قد يرجع ذلك لصعوبة تناول الشخصية المحلية منهجياً لأنها ظاهرة معقدة تتشكل من امتزاج عوامل شتى داخلية وخارجية، تاريخية وجغرافية، ثقافية واقتصادية؛ يصعب بوتقتها في قالب منهجي واحد. أضف إلى ذلك حساسية المجتمعات العربية تجاه تناول شخصيتها المحلية حتى لو كانت علمية صرفة، فينأى عنها كثير من علماء الاجتماع!
في مغامرة بحثية جادة علمياً وأنيقة أدبياً، أصدر الباحث عبد الله البريدي البروفيسور في السلوك التنظيمي بجامعة القصيم، كتابه الجديد «نحو دراسة الشخصية المحلية» مع عنوانين فرعيين: «إطار منهجي تطبيقي على الشخصية القصيمية السعودية» (القصيمي مرسوماً بفرشاة الآخر)؛ محاولاً تسلط بعض الضوء على الفراغ في الأدبيات العلمية حول موضوع الشخصية السعودية، الذي يذكر أن الدراسات فيها محدودة، وهي معدومة تجاه الشخصية المحلية لكل منطقة.
بيد أن هذا الفراغ لا يعني انعدام الصور المتخيلة بأذهان الآخر حيال الشخصية المحلية لكل منطقة، ولا غياب الممارسات الاجتماعية المولدة لتصورات نمطية. لذا، يأتي الكتاب كعمل تحليلي وصفي بمنهج «صارم» يفصح عمَّا هو مضمر متلمساً آثاره الظاهرة. ومن هنا، يقول المؤلف: «يمكننا التقرير بأن: بحثنا لا يجلب صورة نمطية سلبية من فراغ، ولا يحرك رواكد المشاعر المنطفئة، بل يعكسها فقط، وهذا ديدن كل بحث علمي رصين... بحثنا يتوخى تغذية الوظيفة النقدية البناءة في المجتمع؛ تصحيحاً وتقويماً للفكر والسلوك.»
الكتاب يعرض شخصية القصيمي وفق منظور الآخر لا منظور الذات؛ إذ يقول المؤلف «لأنني أنا قصيمي..، فإن هذا يعني بلا مواربة دخولي ضمن دائرة الحظر، فألزمت نفسي بالكف عن اللعب بـ»نار المنهجية»، أي الكف التام عن إبداء رأيي الخاص تجاه هذه الشخصية..» استخدم المؤلف في كتابه منهجية البحث النوعي (الكيفي) الذي يستكشف الشخصية أنثروبولوجياً واجتماعياً؛ ثم أعقبها بمنهجية البحث الكمي المعتمدة على لغة الأرقام ونتائج استبانة عينة إحصائية عشوائية كبيرة تطرح أسئلة لتحديد سمات نوعية للشخصية المحلية المبحوثة، بغية تحديد اتجاهات أفراد العينة.
مع زهد المؤلف بالتعريفات يُقدم الشخصية، عموماً، باعتبارها «مجموعة سمات مستقرة نسبياً تميِّز الإنسان أو مجموعة من الناس عن غيرهم من جهة التفكير والتصورات والأخلاق والسلوك.» ومن ناحية تأملية، يُذكِّر المؤلف بأن الشخصية لا تكون «شخصية» إلا بوجود الآخر، مستنداً على تأكيد الفيلسوف هيدجر بأن وجود الإنسان في العالم لا يعني شيئاً البتة دون حضور الآخر. كما يؤكد سارتر أن «الآخر هو الوسيط الضروري بيني وبين ذاتي..» فالآخر هو الذي يرى شخصيتنا، تماماً كالمرآة التي بدونها يتعذر على الإنسان رؤية وجهه.
يضم الكتاب ثلاثة أبواب. أولها يمثِّل إطاراً تحليلياً ومنهجياً للشخصية المحلية، توزع في ثلاثة فصول تأسيسية كمدخل نظري لمفهوم الشخصية وسياقاتها الاجتماعية الثقافية، والشخصية السعودية في الأدبيات العلمية. تناول بعدها الإطار المعلوماتي التحليلي للمنطقة المبحوثة (القصيم) من جوانبه التاريخية والجغرافية والاقتصادية. وختمها بمنهجية عامة تطبيقية لدراسة الشخصية المحلية.
الباب الثاني خُصص للبحث النوعي، أطلق عليها الكاتب فرشاة تاريخية، قديمة لنحو قرنين، وحديثة لنحو قرن واحد، ترسمان لوحات متنوِّعة للشخصية القصيمية. الفرشاة الأخرى كانت ثقافية لمثقفين سعوديين وغير سعوديين ليعلقوا لوحاتهم في معرض سمات هذه الشخصية. تلاهما فرشاة الفكاهة، جاعلاً من النكت التي صنعها الآخر على الشخصية المبحوثة منصة لتحديد محتمل لمجموعة من السمات. وختم الباب بخلاصة للسمات الشخصية النوعية للقصمان.
الغرض من الفراشي كان لتشكيل لوحات استكشافية، لذا استمر الباب الثالث بالرسم، لكنه خصص للبحث الكمي في قوالب إحصائية عبر فرشاة الجغرافيا عارضاً اتجاهات أفراد العينة حيال السمات الشخصية القصيمية. تلاها فرشاة العلم، أي وفق التأهيل العلمي والتخصص. والأخيرة فرشاة الاقتصاد بعرض تصورات الآخر بحسب الحالة الاقتصادية لأفراد العينة. وختمها بالسمات الشخصية الكمية. خاتمة الكتاب وضع لها المؤلف عنوان «مهاد لمستقبل!» طرح فيها بعض الأفكار بما يشبه قواعد عامة للتعاطي مع مفهوم الشخصية المحلية.
كل الشخصيات المحلية، في أي بقعة بالعالم، عرضة لتصورات إيجابية وسلبية ومحايدة.. وهذا الكتاب ينهض لإبراز أهم التصورات المختزنة في أذهان الآخر تجاه الشخصية المحلية القصيمية أياً كان نوعها. أبانت النتائج وجود سمات للشخصية القصيمية في عدة مسارات، كأي شخصية محلية أخرى من جهة حملها للسمات الإيجابية والسلبية.. وهنا تأتي قيمة الإفصاح عن المجتمع المحلي بعيوبه كي تنقله من طور «مجتمع الفرجة البطَّال» إلى «مجتمع الدربة الفعَّال» محاولاً التخلص من السلبي وترسيخ الإيجابي.
كان هذا عرض عام مبتسر للكتاب من سطوره، كجزء أول سيكون له تتمات لاحقة.