د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
تستحق الثقافة بمفهومها الشامل وثقافتنا السعودية باستراتيجياتها الحديثة التي تحمل أنباء ثرة تستحقُ أن تُصاغ فوق هوادج اللغة الفاخرة؛ فزماننا الثقافي اليوم مختلف في النظرة والتصنيف المعرفي؛ وقد توشحتْ الثقافة السعودية استباقاتٍ تفيضُ عندما تمت الموافقة على الابتعاث الثقافي مطلع هذا العام كمنهج عميق للاندماج مع العالم واستثمار المشترَكات الإنسانية؛ وبعده تفيأتْ الثقافة صدور قرار مجلس الوزراء الموقر في مستهل الشهر الحالي بإنشاء إحدى عشرة هيئة ثقافية جديدة هي [هيئة الأدب والنشر والترجمة، وهيئة الأفلام، وهيئة الأزياء، وهيئة التراث، وهيئة فنون العمارة والتصميم، وهيئة الفنون البصرية، وهيئة المتاحف، وهيئة المسرح والفنون الأدائية، وهيئة المكتبات، وهيئة الموسيقى، وهيئة فنون الطهي] ومجمل مهام تلك الهيئات إدارة ودعم وتطوير وترقية القطاع الثقافي السعودي بمختلف ضروبه، وكما أوضحت وزارة الثقافة أن كل هيئة ستتولى مسؤولية نهوض غزيرة بأحد القطاعات الثقافية، وأن لكل هيئة ثقافية شخصية اعتبارية واستقلال مالي وإداري وتجمعهم المرجعية التنظيمية الموحدة [وزارة الثقافة].
فنتمنى مع ذلك الخصب الجديد حضورًا مختلفًا للثقافة في بلادنا في مواكبها الجديدة واحتضان البدايات المنزوية خلف الجدران تنشد حُزمة ضوء؛ وبدايات المسير في المشهد دونما عنان؛ والأضواء المشرقة في رواقها الشخصي تنشد فيضًا داعمًا يمنحها وهجًا آخر، ومن اللافت لذلك المكون الجديد للإبداعات الوطنية أنها تُعدُّ لكل مبدع تمهينًا لمحتويات عقله ومعايير بناء تمنحهم جميعًا الامتيازات، ومن أولويات بناء استراتيجيات التشغيل لتلك الهيئات الوليدة ألا يكون مفهوم الثقافة متكئًا على صناعة الأداء والعمل؛ بل متكئ على المعرفة الغزيرة التي تصنع المبدعين ذوي السقف العالي من الأداء المتخصص؛ ثم إن التحولات العالمية التي أصبح لبلادنا وفير المكاسب منها تنشد أيضًا اكتمال حضور تلك الهيئات الثقافية في المشهد السعودي لإحداث التوازن والانسجام والقيم العليا ذات الصبغة السعودية المرتبطة بتشكيل الهوية في بلادنا الغالية،
والثقافة مفتاح ذهبي للوصول إلى العالم؛ وكم نحتاج للقوة الناعمة بمستندها الثقافي المتنوع، وترسيخ قوي لمنهجية الثقافة في قواعد التأسيس لتلك الهيئات الوليدة يحتاج أيضًا إلى استراتيجية تعتمد (المثاقفة) وليس (التثقيف) في برامج ومشروعات كل الفنون التي وردت في وسم كل هيئة، وقد أثبت الواقع التطبيقي بأن التثقيف المعتمد على المرسل والمستقبل لا يمكن أن يحدث فرقًا في الذهن ما لم يقترن بدوائر النقل المتبادل وأن يلامس حاجة الطرفين ثم نأتي للخطاب الثقافي المتنوع اليوم فلا بد أن تضعه وزارة الثقافة تأسيسًا على كونها المرجعية النظامية للهيئات الثقافية تضعه فوق طاولة التشريح حتى لا يتداخل الخطاب الثقافي إلا وفق الاختصاص الدقيق فلعل الوزارة لا تنفق وقتًا كثيرًا في تصنيف الفنون وتحديد مرجعياتها؛
فمن الطقوس الملزمة للهيئات الثقافية الجديدة أن تفصل بين قيمة الثقافات الماضية وما يتطلّبه الحضور الثقافي اليوم من قيم جديدة، كما يتطلب الواقع التقاط الإيجابيات في منصات الثقافة القائمة ومن ثم البحث عمن يكفل لنا وفرة ثقافية محفزة للتفكر الإبداعي في كل فن وأحسبهم كثير تحتشد بهم الزوايا العامة والخاصة ويحتاجون لانتظام صفوفهم من جديد وتفجير الإمكانات العقلية السعودية ذات السياقات الثقافية لتتناسب مع التحولات ولتكون مؤثرة وذات نسيج مقنع، ويكون الاهتمام الأعلى هو تنمية ثقافة الابتكار الثقافي في كل الأصناف المنتمية له تتصدرها الفنون والآداب والمهن والحرف ذات الجماليات الواضحة التي أفردتْ لها وزارة الثقافة محاضن خاصة تحت مسمى الهيئات الثقافية، ونأمل من الاستراتيجيات الجديدة للهيئات الجديدة أن تهتم بصناعة الشغف بمنتجات الفنون والآداب وقد يفضي ذلك إلى تنصيب الفنون والآداب حكمًا على جودة الحياة ويسعدنا ذلك الالتفات الجدير للاحتراف كمطلب لمن يقف على إدارة فنون الثقافة لكونها أصداء حية لحياة الناس فكل حضور ثقافي تُشرَعُ من خلاله نافذة ضوء، وتلك حزم من دروب شتى متاحة للهيئات الوليدة لتلبي احتياجًا أزليًا لحياة العقول في مجتمعاتنا السعودية المتحضرة؛ ولتكون صناعة الفنون الثقافية ممارسة تلقائية تؤسس لبناء الرأي السليم؛ فالثقافة وإن كانت مكتسبات فردية فهي دعائم مجتمعية لتحفيز الفكر وذخائر مفضلة بدرجة عالية في مراحل الزمن المختلفة إذا ما صفت مواردها، ولعل معالي وزير الثقافة الذي راد فضاءاتها يشعلُ الأندية الأدبية الثقافية باحتضان الهيئات منفردة باختصاص واحد بعد مواءمة حجم التشغيل المرتبط بالهيئات مع إمكانات الأندية الفكرية والقوى البشرية العاملة بها [وفي ذلك فليتنافس المتنافسون] فالتناسخ المتوافر حاليًا في أنشطة الأندية الأدبية لا يخدم الثقافة التي يُراد منها الانسجام مع التحولات وحيازة أكبر قدر من الثقافات المتنوعة؛ كما أن استثمار حراك جمعيات الثقافة والفنون في استزراع جذور ثقافية جديدة يمكن أن ينبت الزرع! وصواب الحقيقة أن نبدأ وننشر تلك الفنون والثقافات عبر تلك الهيئات التي زرعت تفاؤلاً ممتدًا؛ ثم نسكبُ عليها من رؤى التطوير والدعم المعرفي والمهاري ما يناسب مقتضى الحال والحقيقة...