حمّاد السالمي
كنت وصديقي -وهو خدين جهاز جوال- نتجاذب أطراف الحديث حول المنصات الرقمية المتجددة فقال: وصلت إلى قناعة تامة بأني لو بقيت كما كنت على قراءة وسماع ومشاهدة كل ما يقتحم عليّ خصوصيتي في جوالي؛ لو فعلت ذلك لأضعت ثُلث عمري بين كم هائل وكبير من الرسائل النصية والسماعية والمرئية التي في معظمها لا تسمن ولا تغني من جوع. ليس فقط.. بل فيها من التجهيل والتضليل والتدجيل ما الله به عليم. ثم قال: اشتريت راحتي؛ وكسبت وقتي بأن قنّنت بشكل كبير (كبير جدًا) ما يصلني من هذا الكم المعلوماتي الذي لا أستطيع الجزم بصدق وبراءة كل محتواه.
* أخذت بعد ذلك أقلب بيني وبين نفسي ما قال الصديق الذي يتحدث عن تجربة ودربة. أنا وأنتم كلنا هذا الصديق الذي تحاصره المنصات الرقمية صباح مساء بغثها وغثيثها. ومع أنه ليس كل ما يبث وينشر سيئًا إلا أن أكثره أكثر من سيئ. راح كل مَن هب ودب يكتب، ويصور، ويتكلم، وينتقد، ويبجّل، ويمدح، ويقدح، ويفتي فيما يعرف وفيما لا يعرف، حتى لغتنا العربية الجميلة لم يعد لها قيمة عند عوام (السنابات والواتس آب والتويتر والفيس بوك) وغيرها. بل شاع بين هذا وذاك أسلوب الكذب والتزوير والتدليس في تقديم معلومات مغلوطة ومضللة أحيانًا. فإلى جانب المحتوى الدعائي والتجاري السخيف لكثير من رواد السنابات، وإيهامهم الناس بمتابعين بأرقام فلكية - على طريقة شيوخ الصحاينة - هناك من يلهث وراء الظهور الذي يقصم الظهور، وهناك من يبحث عن الشهرة بين الناس حين يقدم مواد على علاتها، وهناك من يبث معلومات غالطة، تتعلق بصحة الناس وحياتهم، لا تستند لأي موثوقية أو مراجع علمية دقيقة.
* هذه الظاهرة كانت موجودة عند الأولين الذين قالوا في مثلهم: (مَن تكلم في غير فنّه أتى بالعجائب)؛ ذلك أن الجهلة من الناس إذا تصدروا للكلام فيما ليس لهم فيه علم أو دراية - وإنما لحب الظهور وادعاء العلم والمعرفة، وبدوافع شخصية وعنصرية أحيانًا - يأتون بالعجائب والغرائب؛ لأنهم يتكلمون في غير تخصصاتهم، ويتدخلون فيما لا يخصهم، ويخوضون فيما لا يحسنون من فنون الكلام. مثل هذا النوع من الناس كثرة غثة، تموج بهم وسائل التواصل الاجتماعي، وتغص بهم المنصات الرقمية المختلفة، وكثير من المتلقين ممن لا يعرفهم يظنهم على حق وعلم وصدق ودراية، وهم جهلة وكذبة وأدعياء لا أكثر، ومنهم من يتحمّق؛ فيخلط ويؤول بلا علم أو حجة، وإذا تعلق الأمر بالعلوم الطبية والشرعية والسياسية والأمنية والأخلاقية التي تحكم حياة الناس فخطرهم عظيم، وأثرهم عقيم، وعلى المتلقين الحذر مما يصدر عن هؤلاء من تمريرات ومنشورات تضر ولا تنفع.
* أغبط صديقي على نباهة ذهنه ورجاحة عقله، وأراني مقتديًا بما توصل إليه، سائرًا على نهجه. لقد قال سلفنا من قبل: (فلان يهرف بما لا يعرف)، فكم من فلان وفلان يهرف علينا صباح مساء عبر وسائط ووسائل التواصل، ونحن نتلقف هرفه وخرفه على أنه من المسلّمات؛ بينما شاع بين هذا وذاك من هؤلاء الهرافين الخرافين مَن هو حاسد وحاقد، ومَن هو كذاب أشر، ومَن هو مأجور مفتن، ومَن هو ناقد بجهالة وحمق معًا، ومَن هو مجرد ناقل عن ناقل عن ناقل، ويردد: (ناقل الكفر ليس بكافر)..! مثل هذا وذاك خُدّام أغبياء أوفياء للدجالين من مدعي العلاج بالعشبة والتفلة، والدالين على السحرة والدجاجلة وبائعي الوهم على الطيبين من الناس، ومنهم من يتقمص شخصية الواعظ الناصح الذي يفترض أنك على ضلالة، فيمطرك برسائله ومنشوراته ناصحًا ومبشرًا، أو محذرًا ومنذرًا صباحًا ومساءً، وهو يظن أنه يُحسن إليك فيؤجر.
* كأن العالِم الفقيه الشاعر اليمني محمد الشوكاني -رحمه الله- (ت 1250هـ).. كأنه يعيش بيننا اليوم وهو يصور هذه الحالة، فيقول في هذه القصيدة:
يا ناقِداً لِكَلامٍ لَيْسَ يَفْهمُهُ
مَنْ لَيْسَ يَفْهَم قُلْ لي كَيْفَ يَنْتَقِدُ؟
يا صَاعِداً في وُعُورٍ ضَاقَ مَسْلَكُها
أَيَصْعَدُ الْوَعرَ مَنْ في السَّهْلِ يَرْتَعِدُ؟
يا ماشِياً في فَلاةٍ لا أَنِيسَ بِها
كَيْفَ السَّبيلُ إذا ما اغْتَالَكَ الأَسَدُ؟
يا خائِضَ الْبَحْرِ لا تَدْرِي سِباحَتَهُ
وَيْلي عَلَيْكَ أَتنْجُو إنْ عَلاَ الزَّبَدُ؟
كَمْ رَاغِبٍ في سِفاهِي لا أُسافِهُهُ!
وباحِثٍ عَنْ عُيُوبي وهْوُ لا يَجدُ!
وحاسِدٍ لي عَلَى ما نِلْتُ لا بَرِحَتْ
مِنْهُ الْحَشا بِنِيارِ الحسْدِ تَتَّقِدُ!
يا للرّجالِ أَيَغْدُو الْفَدْمُ بَيْنَكُمُ
مُعَظَّماً وإِمامُ الْعِلْمِ مُضْطَهَدُ
فَلا سَقَى اللهُ أَرْضاً يُسْتَضَامُ بِها
أُسْدُ الشَّرَى وَبِها يَسْتأْسِدُ النَّقَدُ
إِنّي بُليتُ بأهْلِ الْجَهلِ في زَمَنٍ
قامُوا بِهِ ورِجالُ الْعِلْمِ قَدْ قَعَدُوا
وغايَةُ الَمْرء عِنْدَ الْقَوْمِ أنَّهُمُ
أعْدَى الْعُداةِ لِمَنْ في عِلْمِهِ سَدَدُ
إذا رَأَوْا رَجُلاً قَدْ نَالَ مَرْتَبةً
في الْعِلْمِ فَوْقَ الذي يَدْرُوْنَه جَحَدوا
أَوْ مالَ عَنْ زائِفِ الأَقْوالِ ما تَركُوا
بَاباً مِن الشَّرِّ إِلاّ نَحْوَهُ قَصَدُوا