د عبدالله بن أحمد الفيفي
-1-
يظلُّ الشاعر أكبر من العَروض، شريطة أن يكون الشاعر شاعرًا، بالمعنى الفنِّيِّ النوعيِّ للنعت. وكثيرًا ما يخرج الشعراء على قواعد العَروضيِّين، قديمًا وحديثًا. أمَّا قديمًا، فنحن في غِنًى عن التمثيل. وأمَّا حديثًا، فحدِّث ولا حرج. ونضرب على خروج بعض الشعراء المحدثين على قواعد العَروض الخليليَّة بعض الأمثلة. فـ(أحمد شوقي)، مثلًا، يقول، من البحر المتدارك، والمسمَّى أحيانًا: الخَبب:
[نَتَّخِـ]ـذُ الشَّمسَ لَهُ تاجا
وضُحاها عَرشًا وَهَّاجا
وكذا يقول من نصٍّ آخَر:
[نَبتَدِ]رُ الخَيرَ ونَستَبِقُ
ما يَرضَى الخالِقُ والخُلُقُ
فخرج عمَّا أجازه العَروضيُّون في حشو هذا البحر، من الخبن والتشعيث إلى ما يشبه (القبض)، وليس بقبض، وهو حذف الخامس الساكن، فتُصبح تفعيلة (فاعلنْ): (فاعلُ)، وذلك في ما جعلناه بين قوسَين مربَّعين من مستهلِّ بيتيه. قلتُ ليس بقبض؛ لأن القبض زحاف، والزحاف لا يكون إلَّا في ثواني الأسباب.
وحكاية البحر المتدارك حكايةٌ تطول، لكثرة رُخَصه: فاعلن/ فَعِلُن/ فاعلْ+ فاعلُ! حتى تَصوَّر بعضٌ أن الخَبب بحرٌ مستقلٌّ؛ لأن التفعيلة (فاعلن)، التي يُفترض أنها أصل هذا البحر، تبدو نابيةً حين تَرِد مع تفعيلات (فعِلُنْ/ فاعلْ). كما أن هذا البحر قد يتَّفق إتيانه في النثر المحض؛ ولعلَّ ذلك سبب إهمال (الخليل) إيَّاه. وأرى أن هذا بحرٌ واحدٌ، أصل تفعيلاته (فاعلن)، كما قرَّر (الأخفش) ومَن تلاه مِن العَروضيِّين. لكنه يجوز في حشوه: الخبن (فَعِلُنْ)، والتشعيث (فالن/ فاعلْ)، لا غير. أمَّا (فاعلُ)، فتبدو محض خطأ عَروضي، يقع فيه بعض الشعراء. ونعدُّه خطأً لأنها تتجاور بسببه المتحرِّكات على نحوٍ ثقيل، إذا جاءت بعد تفعيلة (فاعلُ) تفعيلةُ (فَعِلُنْ)؛ فتتوالَى متحرِّكاتٌ خمسةٌ بلا فاصل سكون. فضلًا عن انتهاء المقطع التفعيلي بمتحرِّك، وابتداء الذي بعده بمتحرِّك. ولئن جاز هذا في أبحر أخرى، فإنه يثقل في المتدارك لتنافيه مع طبيعته الراقصة. ولو أُجيز مثل هذا- أي استعمال (فاعلُ) في المتدارك- لأُجيز، إذن، كلُّ اختلالٍ عَروضيٍّ، أو كلُّ نصٍّ نثريٍّ يَنسب نفسه إلى النَّظم؛ لأن العربيَّة بصفةٍ عامَّةٍ لغةٌ موسيقيَّةٌ بطبيعتها، وكثيرٌ من كلام العرب يأتي اتفاقًا على المتدارك. وحين يتلاشى الفارق الإيقاعيُّ بين شِعر العربيَّة ونثرها إلى هذه الدرجة، فقُل على الإيقاع الشِّعري السلام؛ حينئذٍ لن يبقى بين المنظوم والمنثور من فارق. وبذا فإن قصيدة النثر تصبح قصيدة تفعيلة، وَفق هذا التحلُّل من ضوابط النَّظم الشِّعري! فكيف بما أُسمِّيه قصيدة النثريلة (قصيدة النثر التفعيليَّة)، وهي ضربٌ مزيجٌ من التفعيليِّ والنثري؟!
هذا، وليس الضابط في الأمر كثرة استعمال الشعراء؛ فلَكَمْ وقع الشعراء في مزالق العَروض، منذ ما نُسِب إلى (عَبيد بن الأبرص)، وإلى (أبي تمَّام)، وصولًا إلى (أحمد شوقي). وإنَّما الضابط النظرُ في نواميس العَروض العربيِّ الموسيقيَّة الغالبة، وهي تدلُّنا على اضطراب الإيقاع ما زاد توالي المتحرِّكات على ثلاثة أحرف. والسبب واضح، وهو أن الإيقاع في الموسيقى قائمٌ أصلًا على تناوب المتحرِّك والساكن، أمَّا أنْ تتعاقب المتحرِّكات فوق ثلاثة؛ فثقيلٌ حتى في النثر الخالص.
إن الشِّعر: لعبة التحرُّر والانضباط في قيثارةٍ واحدة!
-2-
وإذا كان الضابط ليس باستعمال الشعراء في إجازة وحدةٍ نغميَّة كـ(فاعلُ) في المتدارك، فليس الضابط كذلك باستعمال الشعراء ليزعم زاعمٌ أن ثمَّةَ بحرَين شِعريَّين، منفصلًا أحدهما عن الآخر، هما: (المتدارك) و(الخَبب)؛ بحُجَّة أن الشعراء نادرًا ما جمعوا بين التفعيلات (فاعلن، وفَعِلُن، وفاعلْ) في نصٍّ واحد. ذلك أن الشعراء عادةً إنما ينسج بعضهم على منوال بعض، بالحفظ والترديد والمحاكاة. حتى إن فلتات التجديد لا تظهر غالبًا إلَّا لدى أولئك الشعراء الذين ضعفت لديهم خاصيَّة الحفظ والترديد والمحاكاة، منطلقين من حسِّهم الموسيقيِّ وذائقتهم الخاصَّة. أضف إلى هذا قلَّة استعمال البحر المتدارك في التراث العربيِّ أساسًا، حتى لقد أهمله الخليل، لا عن جهلٍ به؛ لأنه مستوعَبٌ في دوائره العَروضيَّة، بل لأنه وزنٌ نثريٌّ، قد تأتي عليه عباراتٌ كثيرةٌ وطويلةٌ من النثر، الذي لم يعمد قائلوه إلى وزنه، إضافةً إلى أن الخليل لم يجد عليه في عصره شواهد تُذكَر من شِعر العَرَب. ولولا الإلف، وتوارث الشعراء أصوات بعضهم بعضًا، لأمكن أن نجد قصائد تجتمع فيها التفعيلات الخَببيَّة (فاعلن، وفَعِلُن، وفاعلْ). كأن نقول، مثلًا:
للخَيْلِ أنا السَّائسُ
تَعْدُو، رَسْنُها الهاجِسُ
ثابتٌ أبدًا سَرجُها
ليسَ يَنبو بها الفارسُ
فاعلْ/ فعِلُن/ فاعلن
فاعلْ/ فاعلن/ فاعلن
فاعلن/ فعِلُن / فاعلن
فاعلن/ فاعلن/ فاعلن
فهذا بحرٌ واحدٌ، اجتمعت فيها التفعيلات بلا نُبُوٍّ، حينما جاء توزيع المتحرِّكات والسواكن سائغًا. وبغير هذا يقع التضييق على الشعراء، إمَّا بفرض تفعيلة (فاعلن)، السليمة من الزحاف، في النصِّ الواحد، وإمَّا باستبعاد تلك التفعيلة، وفرض تفعيلاتٍ مزاحفةٍ فقط، بالخبن والتشعيث. ومثلما أنَّ للشِّعر العربيِّ ضوابطَ عَروضيَّةً لا تقبل التوسُّع، فإنَّ عَروض الشِّعر العربيِّ في غِنًى عن التضييق في ما وُسِّعت قواعده، وإنْ لم نَجِد شواهد عليه عند الشعراء بالضرورة.