سهام القحطاني
فلسفة الغربة
في غربتي شطت بي ركاب الأغراب
أشد وانزل والليالي ركايب
أضداد وأقران وعدوان وأصحاب
متناقضات الخلق ما غاب غايب
وأمسيت في صحراء وقيّلت في غاب
ومن شاف الغربات شاف الغرايب
- ص125-
يقف القارئ أمام مصطلح الغربة الذي أفرد له خالد الفيصل حيزاً من كتابه، سواء على مستوى الحدث في ذاته أو الأثر النافع في تشكيل مدونته الفكرية، وهو أمر بالتأكيد يجعل الغربة تتجاوز ظاهرها كثيمة ذات دلالة مكانية بدأت من مكة والإحساء والرياض وأمريكا ولندن إلى العلامة التأثيرية لدلالة الغربة ومكتسباتها المعنوية التي شكّلت التجربة الإنسانية لخالد الفيصل.
كتاب ليس فيه أنا
في الغربة «تتبلور الأنا» أو قل تكتشف الأنا أبعادها بصورة مختلفة أكثر حرية وتأملية وانفتاح واندماج مع الآخر والتعدد الذي تتصف به الغربة، وهي معانِ ودلالات شكّلت فلسفة خالد الفيصل الوجدانية والمهنية والفكرية والثقافية فيما بعد، لتتشكل تلك «الأنا» من خلال الأفق الجمعي ومؤشراته التمثيلية الظاهرة في الرؤية والعمل والإنجاز والمشروعات الثقافية، «فالأنا ليست صوتاً ناطقاً» بل هي أثر يتمدد في النور والظل وصلاحية متنامية، وهذا ما أراده الفيصل من هذا الكتاب أن يقدم تجربة إنسانية بعيدة عن تقديس الأنا، ليقول إن القيمة النهاية لتاريخ الإنسان هي مدى نفعيته لمجتمعه وللناس، وأن التاريخ الحقيقي للإنسان «بلوغ الغايات وإنكار الذات» -ص 9-.
رمزية القدوة وفاعليتها
«لم يُثقل كاهلي في حياتي مثل اسمي أبي وجدي، ويالهما من اسمين فيصل وعبدالعزيز!!»-ص12-.
في غربته الأولى ارتبط خالد الفيصل برمزية جده المؤسس الخالد -رحمه الله- الذي وصفه «شامخ القامة ورفيع الهامة»ص16.
إن قيمة الرمز في حياة الأطفال من الأمور المهمة التي تسهم في تشكيل العقل الوجداني للأطفال فيسعى في شبابه إلى الاقتداء به و نمذجته. فما بالك إذا كان هذا الرمز هو بطل عظيم على المستوى الإنساني والقومي ورمز عالمي، ألهم مخيلة الكثير من شعبه والشعوب الأخرى.
ولم يكن المؤسس الخالد -رحمه الله- هو فقط القدوة في حياة خالد الفيصل، بل كان هناك رمزية أخرى هي رمزية والده الملك الشهيد فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله-، الذي رسخ داخله قيمة العلم والفكر كما رسّخ قيمة وأهمية العروة الوثقى للوحدة الإسلامية والدفاع عن قضايا الإسلام وتبني القضية الفلسطينية ولذلك كان التطبيق الأول لخالد الفيصل لهذا الأثر في أول مهمة له كمدير لرعاية الشباب عندما رفض قبول إسرائيل في اللجنة الأولمبية الدولية».
فعادة ما يكون الولد «سر أبيه» والأب هو القدوة الأولى والأخيرة في حياة الأبناء هكذا تمثل الملك الشهيد الفيصل في حياة خالد الفيصل القدوة التي شكّلت إنسانية خالد الفيصل بكل أبعادها التي ظهرت لنا في هذا الكتاب «من حسن حظي وإخواني أن والدنا.. كان بعيد النظر.. يستشرف المستقبل.. استطاع بذكائه الفطري أن يدرك بأن المستقبل للعلم.. أقول هذا عن أبي لأنه رسم طريق طلب العلم بإنشائه المدرسة النموذجية على ربى الطائف العذبة أضافت إلى التعليم و التربية و مواد علمية جديدة».. ص 26-27.
وهو ترسيخ انعكس فيما بعد على ريادة خالد الفيصل للمشروعات الفكرية سواء داخل السعودية أو خارجها.. والتي تبلورت من خلال عمله الرسمي وهو بذلك يتجاوز صفة المسؤول ليشمل بالإضافة صفة المثقف الذي يمتلك رؤية ثقافية تخلقت من خلالها المشروعات الثقافية التي أسهمت بدور رئيس في صياغة المشروع الثقافي السعودي والعربي. ورمزية القدوة تلك هي التي خلقت داخله حب التحدي وقوة مقاومته وهزيمته.
كل ما زاد التحدي زدت قوة
عادة لأبوي وجدي من قديم
-ص 8-
إن القيم والمبادئ التي تؤسس جذور المرء هي التي تخلق منهاجه في الحياة وترسم قدره الفكري والثقافي. لقد تأثر الفيصل في تشكيل أولياته الوجدانية بوالده الشهيد الملك فيصل -رحمه الله- وبخاله الأمير سعود بن جلوي الذي «ظل اسمه أسطورة مع الناس» -ص73- كما وصفه خالد الفيصل.. إلا أنه استطاع أن يٌشكل أصالة شخصيته الإنسانية والفكرية والثقافية لتظل مستقلة عن تبعية ظلال التقليد لا حافز القدوة، فعندما تولى إمارة منطقة مكة المكرمة سأله رجل من جدة: «سمعنا أنك متأثر بوالدك فيصل وبخالك سعود بن جلوي، فأيهما أنت؟.. قلت تلك شخصيات لا تتكرر وليس أمامكم إلا خالد الفيصل» -ص 99-.
لعل في تلك اللحظة لم يكن يدور في ذهن السائل ولا خالد الفيصل أن التاريخ سيصفه أيضاً بعد سنوات بأنه «شخصية لن تتكرر مثل أبيه وخاله».
الرياضة.. الإحياء الأول
كان أول عمل رسمي في حياة خالد الفيصل هو مدير «رعاية الشباب»، وهو منصب حوله خالد الفيصل -رغم قصر فترته الزمنية- من خلال خبرته الفكرية والثقافية التي اكتسبها من الغربة واستثمار قنوات الإعلام من صحافة وإذاعة إلى مشروع ثقافي وحواري وفكري قومي وعربي، ولذا لا نبالغ عندما نقول أن خالد الفيصل هو المهندس الحقيقي لتاريخ الرياضة السعودية، فمن جاء بعده سار على الإستراتيجية التي خطها الفيصل لهذا القطاع الحيوي.
فترة عملي في رعاية الشباب لم تدم إلا أربع سنوات وبضعة أشهر، إلا أنها كانت مليئة بالعمل والإنجاز، وأشهد أن عمل تلك المجموعة الصغيرة التي رافقتني.. فقد استطاعوا أن يجعلوا أندية كرة القدم أندية اجتماعية ثقافية رياضية، أثرت كثيراً في مجتمع الشباب الرياضي ثقافياً واجتماعياً.. وساهمتُ من خلال الإذاعة السعودية ببرنامج يومي لمدة خمس دقائق بعنوان: «يا شباب الإسلام».. ولم يكن هناك أيّ مؤسسات أو هيئات مخصصة للثقافة في ذلك الوقت»؛ -ص52-53-.
لقد أثبت خالد الفيصل للتاريخ قبل المجتمع أنه «مسؤول يملك رؤية حضارية استطاع أن يحوّل خطوط الملاعب الرملية إلى مشروع ثقافي تنموي.
هندسة النموذج
الصعب هلّى قلت يا صعب سهلا
دامك تبيني فإنت يا صعب شوقي
-ص 73-.
أثبت خالد الفيصل من خلال إنجازاته في رعاية الشباب أنه «مسؤول غير تقليدي، يملك رؤية حضارية كما يملك قدرة تخطيطية وهو الأهم».. فكل منّا يستطيع أن يُشكل له رؤية؛ لكن القدرة على التخطيط قلة من يمتلكها، والمستثنى دائماً من تلك القلة هم من يملكون الرؤية والقدرة معاً.
يقول الفيصل: «بلغني بقرار أعمامي تكليفي بالإمارة في عسير.. قلت: ولكني لن أكون تقليدياً، ولا أستطيع حمل المسؤولية إن لم أعط صلاحية».. -ص 70-71-.
ذهب خالد الفيصل إلى عسير «كمنقذ حضاري لهذه المنطقة التي هي قطعة من جنة الأرض»، هذا ما أثبتته الأيام والموثوق في التاريخ، ولذا كانت عسير كما يقول: «من أهم التجارب، ذهبت إليها لأبقى ثلاث سنوات وبقيت سبعة وثلاثين عاماً كانت حافلة من أول يوم وحتى اليوم الأخير» -76-.. «منحت عسير شبابي وجهدي وفكري، في مسافة تنموية ممتعة ومجدية».. -ص 85-.
نعم كانت تجربة الفيصل مع عسير أهم التجارب، لأسباب عدة.. منها: طبيعة المنطقة جغرافياً وبشرياً وفكرياً، والتي مثلت «النموذج الأمثل للتحدي الصعب» الذي يفضله رجل مثل الفيصل يحب مواجهة التحدي ويملك شجاعة المواجهة والرؤية والقدرة و الإنجاز.
ولذا نجح الفيصل في تأسيس تجربة تنموية بأبعادها المختلفة حضارياً وثقافياً وفكرياً وفنياً» حتى «لم يعد أبهى من أبها، ولا عسير في عسير».. -ص83-.. وأصبحت نموذجاً يُضرب للخطط التنموية الناجحة على مستوى مناطق السعودية، وكيف لا وهي ربيبة «رجل كان قدره التحدي فغلبه بالإنجاز».
هذا هو خالد الفيصل الذي تعوّد أن يبصم بالإنجاز ثم يبتسم ويمشي.