د. إبراهيم بن محمد الشتوي
وفي ظل هذا الحضور الأجنبي في مجتمع الموالي ومن هم في حكمهم، فإن السؤال هنا عن هذا الحضور أولاً داخل هذه الدوائر الضيقة وهي الأسر كأسرة حماد أو خلف أو أبي العتاهية وأبي نواس ثم عن حضورها خارج الدوائر الضيقة في المجتمع الكبير.
وهو سؤال يتصل بما أصبح يسمى في الدراسات الثقافية بعلاقة الهامش بالمركز، وذلك أن هؤلاء وثقافتهم الأصلية يعدون في الهامش في حين أن الثقافة العربية والإسلامية هي المركز بناء على موقع أصحابها من الدولة، وهو سؤال لم يلق العناية الكافية من لدن الدارسين إلا من بعض الزوايا، كقضية «الشعوبية» التي تعني التعصب لثقافة الشعوب غير العربية، وقد تناولها الدارسون الأقدمون والمعاصرون أيضاً بوصفها وجهاً من وجوه «الزندقة» المتخفي بصورة التعصب ضد العرب وثقافتهم، وبأنها تنطوي أيضاً على عصبية عرقية فارسية في الغالب، ولذا جاء افتخار أصحابها بأصولهم الفارسية بوجه من الوجوه.
الزاوية الثانية في البحث عن أثر الثقافة الفارسية في المجتمع العربي من خلال العادات الاجتماعية، والأطعمة واللباس، وبعض الألفاظ المعبرة عن هذه الثقافة المنتشرة في كتب الأدب، كالاحتفال بعيد النيروز وغيرها من العادات دون العناية بما ينطوي عليه هذا التأثر من حقيقة العلاقة بين الهامش والمركز.
وقبل أن نسأل عن نوع العلاقة بين الهامش والمركز، ينبغي أن نسأل عن نوع الثقافة التي ينشغل بها الهامش ويمتلئ. أهي نفس ثقافة المركز وقد برع بها الموالي أم أنها ثقافة مغايرة مستقلة تنحدر من مجتمعاتهم الأولى وتتفق معها، وثقافة المركز التي يتبنونها إنما هي وسيلة للتوصل إليه من قبيل اكتساب الرزق و»صيانة المال والولد» كما يروى عن صالح بن عبد القدوس؟ أم أن هذه الثقافة العلمية الجديدة –أصلاً- التي أصبحت فيما بعد ثقافة المركز هي من صنع الموالي وبضاعتهم التي صنعوها لأجل أن يتكسبوا بها، صاغوها على نمط معارفهم الأولى، فجاءت مصطبغة بصبغتها؟
الغالب عند الحديث عن الموالي وثقافتهم تجاهل الخلفيات الثقافية التي ينحدرون منها، وتجاهل الثقافة غير العربية في ذلك الزمن وحجمها. صحيح أن هناك حديثاً عن الاتصال، والاطلاع، والترجمة ونحو ذلك، ولكنه حديث يبدو منه الاعتماد على مصادر أمم بائدة أو تكاد ليس لها ذكر إلا في هذه الكتب والمعارف التي دونها أصحابها قبل مئات السنين، ثم حفظت في الخزائن أو الأديرة وانقطعت الصلة بها أو كادت، ولا يعكس حلق علم أو درس، وعلماء يتحاورون ويتناظرون في شئون المعرفة والسياسية، أو تواصلاً شخصياً مع علماء أحياء قائمين.
وبما أن العرب قد نزلوا في ديار قوم أهل كتاب، ولديهم من الحضارة والمعارف ما لم يكن للعرب، وكانت موجودة في الديار التي سكنها العرب، وأخذوا بسلطانها، ثم لم يعد لها وجود كما في الحالة التي تصورها كتب التاريخ والأدب، فإننا أمام فرضيتين: الأولى- أن هذه الحلق والدروس والبيئات العلمية قد ظلت كما كانت عليه من قبل في مجتمعاتها الضيقة، مشكلة بيئة موازية للبيئة العربية، ولكنها في الهامش وتتأثر بما يتأثر به الهامش عادة. أو أنها تعربت استجابة للسان ذوي السلطان، وأصبحت تتكلم بلغتهم، وهذه المعارف والعلوم العربية الجديدة إنما هي تلك المعارف بنسختها المعربة أو العربية معتمدة كل ما يتسم به التعريب من سمات حيث تعريب الشواهد، والأمثلة وتعديل القواعد بما يتناسب مع الحالة الجديدة المعربة، ولأن الموالي أو من في حكمهم من أصحاب الأعراق الأخرى هم أصحاب تلك العلوم ابتداء فقد برعوا بها انتهاء، وصاروا هم المراجع فيها.
ولكن المشكلة لا تتوقف عند هذا الحد، فهؤلاء الموالي الذين جيء بهم من الأصقاع المفتوحة أو كانوا أهل الديار المحكومة لا يمثلون إلا قدراً يسيراً من الأمم التي انحدروا منها، فأصولهم باقية في مكانها، بالحال التي كانت عليها من قبل، وهذا يعني أن تلك الثقافات وبيئاتها ظلت قائمة محمية بسلطانها متوافرة في بيئتها حتى وإن اعتنق أصحابها الإسلام ما داموا قد ظلوا على لسانهم، لم ينتقلوا إلى الحواضر العربية، وأنها –البيئات- قد ظلت مصدراً من مصادر الخبرات البشرية التي يستعين بها أهل الحواضر كبغداد والشام وغيرها، والحكاية التي ترويها كتب الأدب في مجلس سيف الدولة حين تحاور سيف الدولة مع بعض حراسه بلغة بعض أقاليم الشرق الخاصة لا يفهما الحاضرون، وكان الفارابي يفهمها، تدل على حداثة مجيء هؤلاء، وتدل على أن تلك اللغات والثقافات قائمة متوفرة في نفسها.
وبناء على أنه لم يكن للعرب معارف في الأساس، وأن هناك ثقافة سابقة عليهم لدى الأمم السابقة، والذين تحول أبناؤهم إلى رعايا للدولة الجديدة، وأنهم -الرعايا- قد أصبحوا أكثر دراية بها، وهي إما أن تكون ثقافتهم الأولى أو أن يكونوا صنعوها على مثال نموذج سابق، وهو معارفهم الأولى فجاءت منصبغة بصبغتها. وهنا يأتي السؤال عن مدى مطابقة اللغة العربية وثقافتها للنموذج السابق، ومقدرة هؤلاء على تمثِّل الثقافة العربية، واستنباط أنظمتها استنباطاً كاملاً لا يأتي من ورائه الخلل؟
إن الإجابة على هذا السؤال الأخير ليست من اليسر بمكان، وهو مدار بحث كل الدراسات الحديثة، وسيظل مفتوحاً للأجيال القادمة.