محمد هليل الرويلي:
فاضَ اشْتِياقِيَ «جِيبوتي» وَمَحْضَرِهَا
أَشْدوا قَصائِدَ شَدْوَ الْهائِمِ الْوَهِمِ
أَوْمِـئْ إلى «دِخِلٍ» وَالدَّارُ مَرْبَعُنَا
في سِلْمِها وَلَكَمْ آخَتْ مِنَ الْأُمَمِ
أَرْسِلْ قلوعَكَ وَلْتَنْزِلْ بِها «أُبُخٌ»
بِشْرَ الْمُسَافِرِ في مَرْسًى وَفي نِسَمِ
أسرة الشعراء جيبوتي، بلاد كأن الله إنما خلقها لتكون المرتفق للعرب منذ سالف الأزمنة، اسألوا عنها كل مكروب، كانت لأزمنة ملاذًا عن مجنات المحن. يرد عليها من يبست شفاهه، وهجر الديار وركب البحار، فارًا بالعمر، لم تهدأ له فرائصه قبل أن تطأ قدمه البلاد. لله في أزمانه إرادة وله في خلقه حكمة. رياح رحلتنا الصحفية هذا العدد تُجرِينا إليها، إِذ البلد العربي يتمايز في عمق القرن الإفريقي، ليكون خاتمة المسك في الرحلة الأدبية الثقافية (رقيم ودهاق أوطاننا العربية)، بعد أن يعقبها الملف المخصص بأدبنا السعودي.
على الضفة الجنوبية من مضيق «باب المندب»، الذي يصل بين خليج «عدن» و«البحر الأحمر»، بلاد قربها الجغرافي من وسط العالم، موقعها مفصلي في العالم العربي، إلا أنها تبقى لغزًا يحيّر القارئ العربي! ويزيد انطلاسه. هذا البلد المقدر سكانه بمليون نسمة تشكل أغلبيته من عِرقين «العفر والصومالية»، تموضعت أكبر مدنه على الساحل اعتبر «بحيرة عربية» في يوم ما. كم من المُبهمَات مرّت، في طريقنا للتنقيب والتدوين حول حضاراته وآدابه وثقافة المتوارثة. وإذ كان ما من بد إلا المرور «بجزيرة الشيطان» تجدر الإشارة لما حكاه الصيادون، مما لم نفهمه ولا نعلم عنه شيئًا، أكان ضربًا من أساطير وخرافات وخزعبلات، أم هي حقًا وقائع مروعة وحقائق نقلتهم إلى عوالم غريبة! فيما كانوا مغيبون عن الوعي اختفوا ثم وجدوا أنفسهم فجأة يتحدثون مع كائنات غريبة، ومخلوقات استحال وصفها.. إن كان في الأمر ما كان «لا أَغَرٌ ولا بهِيم»، وها نحن نجتاز قاحلة الصحراء والجدب المتشبث برداء من الجرد، هذا المشهد يغلب على طابعه المتشابه أرض صحراوية، أرخت كاحلها دون الحداثة والتقنيات التي توصف بالعولمة. بعد ذلك بمكان غير بعيد، كأن الأرض انزلقت فجأة وانحدرت بنا، إلى منطقة هي الأكثر انخفاضًا في العالم! ظننت نفسي في «البحر الميت» غير أن عرّاب الشؤون «الأفروإعربية» الباحث محمود حسن أوضح أن ما هي «بحيرة عسل»، أشد بحيرات العالم ملوحة، وأشار أنت هُنا يا أعرابي في التاريخ القديم. تاريخ الإنسان في جيبوتي موغل في القدم، وليس ببعيد من هذه الأرض، تم إيجاد مستحاثة «لوسي» لكائن شبه بشري يعود إلى المليون الثالثة، وعلى مدى عشرات آلاف السنين بقيت المنطقة منطلقًا وممرًا للجنس البشري من إفريقيا إلى العالم، ومن غرب آسيا إلى القارة الإفريقية، لقد استمر الإنسان الجيبوتي في مساهمته في التقدم البشري، إذ إن هذه البلاد جزء من إقليم «بونت» الذي يعتقد معظم العلماء اليوم أنه يقع في جنوب شرق مصر، وعلى الأرجح في المنطقة الساحلية في جيبوتي الحديثة، والصومال، وشمال شرق إثيوبيا، وإريتريا، والساحل السوداني على البحر الأحمر. ما زالت تقاليد إشعال البخور التي سادت في معابد سومر ومصر الفرعونية وآشور والإغريق والأديان السماوية، دليلاً على الدور الكبير لحكمة سكّان المنطقة والدور الروحي المستمد منهم والمستمر إلى يومنا هذا.
مملكة «أكسوم»
وتفصيلاً حول حضارة جيبوتي والتاريخ القديم بعد الإشارة في المقدمة لإقليم «بونت» والتقدم البشري والتقاليد والعادات التي حافظ عليها السكان عبر العصور واستمر بعضها إلى الآن، قال مدير مركز «هرجيسا» الباحث والكاتب «محمود محمد حسن» وبعد قرون من انضمامها لمملكة «أكسوم» التي حكمت ضفتي البحر الأحمر وخليج عدن في أوج توسعها وضمها لليمن، أصبحت بلاد جيبوتي جزءًا أساسيًا من «سلطنة العدل وإيفات» في العصور الوسطى، حتى دخول الفرنسيين، ومنذ حين ذلك الوقت اتخذت جيبوتي أسماء مختلفة مثل «أرض الصومال الفرنسية» اعتبارًا من عام 1894، ثم إقليم «عفر» و«عيسى» الفرنسي.
أما أصل التسمية: فالروايات تتباين بتباين رواتها من أبناء القوميتين الرئيستين في البلاد «العفر» و«الصومال»، فيقول الصومال: إن سبب تسمية البلاد، يعود إلى سلالة من «الدببة» التي أدخلها البرتغاليون لدى حروبهم مع السلطنات المسلمة في القرن الإفريقي، فاستخدموا تلك المخلوقات الشرسة ضد المسلمين، إبّان حروب سلطنة «عدل» مع مملكة الحبشة، في القرن الرابع عشر، وتم تحريف اسمها من «الدوبو Aldubu» البرتغالية من قبل السكان إلى «بوتي» Butti، وتكاثرت تلك الضواري في المنطقة، وروعت الناس وهاجمت مواشيهم، وكان بين الدببة وبين عشائر قبيلة العيسى جبل فعزمت القبيلة على إبادة تلك الضواري، فشنت حملة أدت إلى إبادتها «جب»، فأصبح ما يلي ذلك الجبل قريبًا من «زيلع» يسمى حيث انكسرت الدببة أي «جب - بوتي Jab-Butti ».
التّجار العرب غيّرو مسماها «Gabd»
أمّا إخوتهم «العفر» فيرجعون أصل التسمية إلى لفظة «مرتفع أو هضبة» بلغتهم التي منطقوها «Gabd» وينسب تغييرها إلى «جيبوتي» إلى تُجّار عَرب دأبوا على التجارة مع السكان، في حين أن الرواية الأخرى للعفر تحكي عن أن بعثة استكشافية فرنسية نزلت البلاد في القرن التاسع عشر وأثناء مسيرهم صادفوا سيدة من رحّل (العفر)، وكانت مُنكبّة على آنية لها، فأشاروا إلى الأرض، حيث كان أحد قدورها، واستفسروا عن البلاد، فظنّت أنهم يعنون قِدْرها المعدني، فقالت «يي - بوتي «Yi-buuti» أي هذه قِدري.
سمات المجتمع الجيبوتي
يجمع المجتمع الجيبوتي بين تنوعه العرقي وموقعه في منطقة تضج بالصراعات الدامية بين مكونات الدولة الواحدة، إلا أن المجتمع الجيبوتي استطاع من خلال طبيعته الخاصة، أن ينجح في تحويل تلك التناقضات إلى نقاط قوة وازدهار، ما جعل ذلك البلد المحدود مساحة والصغير سكانيًا إلى مركز تجاري مهم يقدم خدماته لدول الجوار، مما يسهم في تحسن أوضاع ساكنيه بوتيرة تفوق كل ما حوله من دول الجوار، وهو ما يجعلنا لا نستغرب مداخلة الأستاذة «نعمة موسى سعيد» التربوية الجيبوتية في معرض حديثها عن القومية العفرية والثقافية في جيبوتي: تعد العفر إخوة أشقاء للصوماليين، إنّما يميزون بخصائص فريدة يمكن اعتبارها مصدر إثراء كبيرًا للمجتمع الجيبوتي الذي يشكلون نسبة كبيرة منه، وتردف أن التقارب الثقافي بين الصوماليين والعفريين وإخوتهم الأورومو في القرن الإفريقي، نابع من وحدة عرقية ولغوية تجمع تلك الشعوب الثلاث ضمن مظلة الشعوب الكوشيتية.
وبالنظر لما يتميّز به العفر، فهم يتميّزون بتمسكهم بالحكمة القديمة لشعوبنا، فهم عنوان التواضع والعمل بجدّ، كما أن تمسّكهم الشديد بالتقاليد أسهم في حفاظهم المحمود على الترابط العائلي والعشائري، لذا يسود التوادّ والتعاون والتعاضد فيما بينهم، فمهما كانت إمكانات الفرد متواضعة، تجده يستقبل كل محتاج بأقصى معاني الكرم، كما أن ذلك ينطبق على أثريائهم والمتنفذين من أبناء القومية، فهم على خلاف بعض المجتمعات، لا يأنف الوزير أن يتوجه إلى أقاصي البادية ليرى احتياجات أبناء الشعب في مشاهد صادقة تدعو إلى الفخر والاعتزاز، وتعلي من أهمية الاقتداء بهذا الجزء من الشعب الجيبوتي في أخلاقه.
شعب ضرب أروع أمثلة
احتواء الغريب
وتضيف الدبلوماسية الجيبوتية «آمنة محمد» في ذات السياق: من أكثر مميزات جيبوتي تنوع النسيج المجتمعي، فالعرقيات الثلاث التي تكون الشعب الجيبوتي، تعيش في انسجام واختلاط وانصهار، وتلك العرقيات هي الصوماليون والعفر واليمنيون، وعلى الرغم من هذا التنوع فإن حالة التناغم تكاد لا تترك مجالاً للاختلاف فيما بين المكونات الثلاثة التي تغني الوطن ثقافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، لذا فإنه من السهل عليك أن تلمس طيبة الناس في جيبوتي، وحبّهم للسلام رغم وقوع البلاد ضمن منطقة تمُورُ بالصراعات والتناحر، ويتسع هذا التمسك بالمودة والتعاون إلى ما نسميه «حب الغريب»، فالشعب الجيبوتي ضرب أروع الأمثلة في احتواء الغريب، ما تجلّى في استقبال الكثير من اليمنيين خلال الحرب، ما يعكس طيبة هذا الشعب المضياف، رغم المصاعب والظروف الاقتصادية، ما قال حوله الشاعر:
فاضَ اشْتِياقِيَ «جِيبوتي» وَمَحْضَرِهَا
أَشْدوا قَصائِدَ شَدْوَ الْهائِمِ الْوَهِمِ
أَوْمِـئْ إلى «دِخِلٍ» وَالـدَّارُ مَـرْبَعُنَا
في سِـلْمِها وَلَكَمْ آخَتْ مِنَ الْأُمَمِ
أَرْسِلْ قلوعَكَ وَلْتَنْزِلْ بِها «أُبُخٌ»
بِشْرَ الْمُسَافِرِ في مَرْسًى وَفي نِسَمِ
التجارة وهجرة الصحابة للحبشة
ارتبطت اللغة والثقافة العربية في جيبوتي بالدخول المبكر للإسلام إليها، قبل الهجرة النبوية إلى المدينة، وإبّان هجرتي الصحابة للحبشة، وعلى الرغم من أهمية اللغة العربية كلغة للتجارة - لكنها - لم تتحوّل لتحل كجزء أساسي من هوية السكان إلا بعد دخولهم الإسلام بشكل جماعي وطوعًا. وباستتباب الأمن، تحققت الاستقلالية عن القوى الإمبراطورية في هضبة الحبشة، كما ضمن فتح شبكات من العلاقات الاقتصادية امتدت للهند، مصر، زنجبار، البصرة. ما شجّع العرب للهجرة إليها، فأصبح أحفادهم جزءًا من التركيبة الاجتماعية والقبلية في المنطقة.
ويؤكد عضو هيئة البحوث والدراسات في المجلس الأعلى الإسلامي الباحث «إلياس إدريس أحمد» على ذلك إِذ يقول: بالرغم من أن اللغة الفرنسية معتمدة كلغة للإدارة والحكم، إلا أن اللغة العربية هي اللغة المعتمدة في الشؤون الدينية كالخطب المنبرية والخطابات الدعوية والدروس في المساجد والمعاهد الدينية. للغة العربية مكانة كبيرة لدى الجيبوتيين خاصة وأنه يتكلم بها طيف واسع من المواطنين الجيبوتيين العرب كلغة قومية وهي لغة التخاطب الإداري في المحكمة الشرعية، يدل على التأثير الثقافي للعربية ما فيه من عادات وتقاليد ونمط للعيش في هذا البلد الإفريقي، إِذ ثقافته ذات نكهة عربية من خلال تأثير العرب في مختلف مناحي حياة السكان كما أن الإسلام جعل هذا المجتمع أقرب بكثير في نواح ثقافية واجتماعية شتى للعرب كالأعياد والاحتفالات الدينية والاجتماعية وغيرها..
الاستعمار والنضال من أجل الثقافة واللغة
مما لا شكّ فيه أن السياسة الثقافية للقوى الاستعمارية أولت اهتمامًا إلى حد كبير بالسيطرة على أذهان وعقول الشعوب المحتلة، وهو ما لم تكن فرنسا بعيدة عنه، إِذ وجهت ضربات قوية ضد الثقافة العربية في البلاد، نظرًا لعدم وجود نظم كتابة أصيلة ومعتمدة حينها للغتي الصومال والعفر، وتعود التربوية «نعمة سعيد» لتشير إلى ذلك في معرض حديثها عن مكانة اللغة العربية وثقافتها في جيبوتي فقالت: إن الثقافة العربية تعرضت لضربة قوية في جيبوتي، إبّان الاحتلال الفرنسي، لدرجة كادت أن تصبح تلك الثقافة جزءًا معزولاً عن بقية مكونات الثقافة الجيبوتية، كما هو الحال في كثير من الدول لـ»فرانكوفونية» خاصة أن السياسات الاستعمارية الفرنسية اختلفت إلى حد كبير عن سياسات دول استعمارية أخرى كبريطانيا مثلاً، إِذ يمكننا أن تلاحظ الفارق في الانفتاح على الثقافة العربية في المحمية البريطانية والمستعمرة الإيطالية في الصومال. فكانت الفَرْنسّة التي فرضها الفرنسيون، سببًا في تغيير نظرة الناس إلى الثقافة العربية نتيجة لتفضيل حملة الثقافة الفرنسية على من سواهم في الوظائف والترقيات، ما أدّى إلى عزلة الشعب الجيبوتي، ومع تدهور مكانة اللغة الفرنسية التي فاقتها لغات كالإنجليزية، لكن جهودًا كبيرة بذلها الجيبوتيون لصيانة الثقافة العربية، كانت سببًا في المحافظة على وجودها واستمرارها، وبالحصول على الاستقلال سنة 1976م، نهضت اللغة العربية وتسارعت بشكل لافت.
دور المدرسة السعودية وجامعة الإمام محمد بن سعود
أوضح الباحث «إلياس إدريس أحمد» أن اللغة العربية تم اعتمادها في التعليم المدرسي الرسمي منذ 35 عامًا، إلى جانب التدريس بها في المساجد والمعاهد الدينية، وذلك من الصف الثالث الابتدائي إلى الثالث الثانوي.
وأشار لعدد من المدارس العربية التي أسهمت في الحفاظ على الثقافة العربية في جيبوتي: مدرسة النجاح الإسلامية تأسست عام 1935م، المعهد الإسلامي التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية تأسس عام 1981م، وتخرج منه كل حاملي الثقافة العربية في جيبوتي ومنهم الوزراء والسفراء وكبار مسؤولي الدولة، إضافة للدور الذي قدمته المدرسة السعودية في الحفاظ على الثقافة العربية، ومدرسة الجالية اليمنية، والمدرسة العراقية سابقًا، وعدد كبير من المدارس الأهلية العربية. فيما أوضح المشرف العام على مدارس باب المندب النموذجية «محمود بله»: إن مؤسسات التعليم العربي تحملت مسؤولية كبيرة تتمثل في تنشئة الصغار منذ نعومة أظفارهم على التربية الصحيحة وتعليمهم الثقافة العربية والإسلامية الأصيلة.
فيما يرى عضو هيئة التدريس بجامعة جيبوتي الدكتور «عمر برة «أن الجيل الصاعد في جيبوتي سيكون أفضل حالا من سابقه، لأنه يحظى بتعلم اللغتين العربية والفرنسية في أن بحكم المنهج الدراسي الجديد - خلاف ما كان في الماضي - إِذ تدرس اللغة العربية بوصفها مادة أساسية في المدارس الحكومية كافة من الابتدائية إلى الثانوية.
مظاهر الثقافة العربية في جيبوتي
وحول الحركة الغنائية الفنية أكَّد «الفنان عبدالقادر بامخرمة» الحضور اللافت للفن الغنائي اليمني والخليجي، في أوساط الشباب من الجنسين، إضافة للحركة الفنية الجيبوتية وقال: لا يقتصر وجود الثقافة العربية في تجليات المشهد على المؤسسات الرسمية فقط، ولا على الموروث الثقافي التاريخي للشعب، إنما امتد لكل المظاهر الثقافية العامة، وفي مقدمتها الفن. إِذ للفن اليمني جمهور كبير في جيبوتي وكذلك الأغنية الخليجية.
أما الكتاب العربي فله مكانة خاصة في المشهد الثقافي المحلي، وتنتشر في السوق المركزي بالعاصمة جيبوتي العديد من المكتبات العربية التي تبيع الكتب الدينية والعلمية والفكرية والثقافية عامة والرواية خاصة إلى جانب الكتب المترجمة إلى العربية، وبناءً على توسع التعليم العربي، وازدياد اهتمام الدولة بالثقافة العربية، أصبح يتوفر لجيبوتي نخبة متعلمة ذات ثقافة عربية أصيلة تدرس في الجامعة الوطنية والمدارس الحكومية والأهلية، أيضًا في المعاهد المتخصصة.
بدايات تقليدية ركزت على المدائح والمراسلات
بيّن الكاتب «فارح عوفله» أن البدايات للإنتاج الثقافي في جيبوتي باللغة العربية كانت تقليدية تركزت على العلم الشرعي والمدائح النبوية والمراسلات، وصاحب هذا الإنتاج الإنساني المميز نتاجات محتوى معرفي غني، ككتاب «دليل القرن في علم الرسم» للشيخ «عبدالله العيدروسي» أول من تولى إدارة مدرسة النجاح، وله مؤلّف «الدروس الدينية» ثلاثة أجزاء، والقاضي «موجي درر سمتر» وأشهر كتبه «عيسى شعب وتاريخ» و«التقاليد الموروثة في توليه الأوغاس»، والشيخ «حسين نوريه» صاحب كتاب «ثمرات المقاصد على نجم السيرة والعوائد» وهو شرح للنظم في السيرة النبوية، وأسماء عديدة أسهمت في الإنتاج المعرفي الجيبوتي «الشيخ عثمان وعيس المتوفى سنة 1967م، والشيخ عبدالله بودي والشيخ عبد الرحمن لطفي..» ويضيف الباحث الجيبوتي «فارح عوفلة» قائلاً: لم تتوقف قافلة الإبداع العربي في جيبوتي يومًا، بل ازدادت تقدمًا وازداد الملتحقون بها يومًا بعد يوم، وبرز عدد من الكتّاب الشباب، الذين ذلّلَ عشقهم للعربية العبور بسلاسة بين النظم والنثر، يكاد يجمعهم حس رومانسي جامح، ينسكب عبره إبداعهم سيولاً من إبداع ومشاعر تأسر من يتصفح مؤلفاتهم، انتقل حسهم الفريد، لحروفهم وعباراتهم العربية، وألبسها من الفرادةِ ألوانًا وألوانًا.
رحيل «شريفة علوي» صدَم القرن الإفريقي
وتابع: قد تكون الشاعرة «شريفة علوي - توفيت سنة 2013م» إحدى شمعات الأدب الجميل، ليس فقط في جيبوتي وإرتريا، بل في منطقة القرن الإفريقي، تاركة الوسط الثقافي في القرن الإفريقي غارقًا في حزنه وصدمته، بعد أن اطمأنت عليه بتركة من الإبداع تمثلت في ديوانين شعريين حملا اسمين مميزين فكانا ديواني «زخرف بلح» و»إلّا أنا».
حفيد مؤلف «أخبار الدناكل وتاريخ العفر»
وزاد: ويأتي الروائي الجيبوتي «محمود شامي» أحد أبناء مدينة «أوبوخ»، المنتمي لأسرة علمية عريقة، فقد كان جدة الشيخ «جمال الدين الشامي» مفتي «دنكاليا» بإرتريا، مؤلف كتاب «أخبار الدناكل وتاريخ العفر» بمعية ابنه الدكتور هاشم الشامي، وله من المشروعات الأدبية رواية «مارس» وهي رواية - يعتقد شامي - أنها تستحق القراءة والاهتمام، رواية شرق إفريقية شاملة، تحمل هموم واهتمامات وآمال تلك المنطقة المنسية، وتتعرض روايته لأشياء مفروضة يفرضها الواقع وتفرضها البيئة عليهم، ولأشياء مرفوضة كرسوم وضريبة «ارث» استعماري، وضريبة «العصرنة والنقلة» المجتمعية وفرضها عليهم الزمن المتغير في تلك البقعة من عالم تحكمه تقاليد وأعراف خاصة.
وتأتي ثلة من الأدباء وكتاب المقال في جيبوتي، كما يشير الباحث الصومالي «عبدالله شيخ عبدالقادر»، طارحًا أسماء مؤثرة في الفضاء العربي الجيبوتي، تأثيرًا يتجاوز حدود جيبوتي، ذاكرًا كتّاب مهتمين بالتاريخ، كالأستاذ «محمد طاهر الزيلعي» صاحب واحدة من أوائل المدونات العربية في القرن الإفريقي المسماة «الرباب»، وكاتب المقال والمتميز «فارح عوفلة»، مؤلف أنطولوجيا القصة القصيرة في جيبوتي.
أول صحيفة في جيبوتية
ويستفتح الصحفي في الإذاعة والتلفزيون الجيبوتي «شاكر عيليه» كلامه حول الإعلام في جيبوتي بالقول: نشأت الصحافة الجيبوتية بهدف النضال ضد الاستعمار، وكانت ردة فعل القوة الاستعمارية إصدار نشرات إعلامية للرد على تلك الأفكار التحررية، وغلبت على الصحافة في بداياتها اللغة الفرنسية، نظرًا للضغوط التي وضعها المستعمر على اللغة العربية من جهة، وغياب نظم كتابة للغتين المحليتين الصومالية والعفرية، فأدّى - ما سبق - لتأخر ظهور الصحافة العربية، حتى صدور صحيفة القرن الإفريقي الأسبوعية اللغة العربية 2004 بقرار حكومي، دلّ على بلوغ جهود الدولة الجيبوتية مرحلة متقدمة، بدأتها بدعم تعليم اللغة العربية ونشر ثقافتها منذ الاستقلال سنة 1976م».
«وأضاف إلى جانب قلة «دور النشر» في بلد تنعدم فيه إصدار الأعمال بالعربية في تلك الدور، باستثناء المنشورات الرسمية التي تصدر باللغات المعتمد في جيبوتي والجريدة الرسمية، لم تصدر الدولة - حتى حينه - أي كتب باللغة العربية، ما أجبر الكُتّاب الجيبوتيين إصدار أعمالهم في الخارج.
ويعد صدور جريدة «القرن» في السابع من مايو سنة 1997م، ورأس تحريرها الأستاذ «مؤمن حسن بري» نقطة التحول الرئيسة. إِذ نشرت باللغة العربية، وتصنّف تلك الصحيفة بأنها جريدة نصف أسبوعية سياسية ثقافية اجتماعية شاملة، كانت بمنزلة إضافة حيوية للعمل الإعلامي. جاءت نشأتها استجابة لنقل نبض الشارع وتعزيز الهوية الثقافية العربية الإسلامية كأول منبر إعلامي ناطق بالعربية. تم تأسيسها بمبادرة من رئيس الجمهورية السيد إسماعيل عمر جيليه، وكان يومها رئيسًا لديوان الرئاسة. ثم تتابع على رئاسة تحريرها: شعيب عجال الصغير، عيسى خيره، مؤمن حسن برى، الذي يتولى رئاسة تحريرها منذ 1999م.
ساعات البَث في الإذاعة والتلفزيون
وفي مجال الإذاعة والتلفزيون: بعد أن ظلت اللغة الفرنسية المتصدرة والمهيمنة على جو الثقافي، بعد مضي 35 عامًا على الاستقلال، برز الدور والحضور الإعلامي للغة والثقافة العربية، ويظهر هذا الاهتمام من خلال المساحة الكبيرة التي توليها المؤسسة الإذاعية والتلفزيون الجيبوتي الرسمي للعربية، المعروف اختصارًا «RTD» حتى وصل إلى خمس ساعات من البث يوميًا، تبث في الساعات المخصصة للغة العربية برامج وأفلام ومسلسلات عربية ومدبلجة إلى العربية، إلى جانب النشرة الإخبارية العربية مساء كل يوم.