حسب ما تعلمناه في مدرسة الأدب، لأي عمل أدبي تصور في ذهن كاتبه لشيء ما يسعى لاستيلاده عملا ملموسا ليمتع نفسه ويمتع الآخرين، ارتكزت رواية زيف القصاص للكاتب السعودي المبدع حامد الشريف على محورين أساسيين، هما الرومانسي والبوليسي، حيث نقل لنا من خلال الرواية - علاوة على روعتها - وجهة نظره حول قضايا مجتمعية تخص المرأة تحديدا ونظرة المجتمع الذكوري لها.
سأتحدث في البداية عن تأثير الرواية عليّ كمتلقٍ بسيط يحظى بعقل سليم وتعليم جيد؛ كنت أقرأ والأحداث تتقافز في مخيلتي وكأني أشاهد فيلما بوليسيا من الطراز الرفيع، تدور أحداث الرواية في مدينة دبي، حيث وقعت جريمة قتل كان ضحيتها محاسب في شركة، ومن هنا تبدأ المتعة، حيث يشرع رجال الأمن بفك شفرة الجريمة والبحث عن القاتل.
أبدأ من العنوان (زيف القصاص) الذي قادني لإجابة شافية عن تساؤلي، كيف يمكن أن يتولّد الشيء من نقيضه؟
وجدتها في مثال حي بعد أن طالعت آلية تولّد الإرادة الجشعة من التأمل النزيه، الإرادة التي دفعت المتأمل النزيه لحصاد روح المحاسب القذر وتخليص المجتمع منه بطريقة ما، بعد مطالعة سلسلة من الأحداث تبين العوامل النفسية الناتجة عن قسوة ظروف الحياة التي يعيشها أبطال الرواية والتي تحاكي أفعالهم بطريقة مباشرة حيث تمكن الكاتب من ربط الأحداث والتنقل بين الشخصيات بحرفية عالية، كما كان موفقا في نسج حروف.
الرواية على نول الإبداع و انتقاء مصطلحات تخدم الحدث دون تكلف.
أكثر ما أثار انتباهي مراعاة الشرح الدقيق للحالة النفسية التي تغلف حياة كل شخص من شخوص الرواية و أثرها الذي ينعكس على تصرفاته حيث تسلّطت بقعة ضوء كبيرة على كون الأنثى تحتاج إلى الشعور بإنسانيتها في لجة المجتمع الذكوري، وكسب حقوقها التي بقدر ماهي بسيطة و متواضعة بقدر ما لها أثر عظيم ونشوة كبيرة في نفس الأنثى.
لكن غالبا يكون مجتمع الذكور غير انساني، يميل لجعل الأنثى وسيلة للمتعة فقط، حيث تتحول شيئا فشيئا إلى مادة لها ثمن بخس مثل أي سلعة معروضة في المتاجر، حتى تؤول إلى شيء محتقر في نهاية المطاف.
نجد بين الصفحات فتاة عاشت حياة مستعارة ظنا منها أن سعادتها في إشباع غريزتها بأي طريقة كانت و إن بتقديم نفسها لقمة سائغة لأول رجل يصادفها، لكن سرعان ما تعود لتشعر بالنقص الذي يكتنف حياتها بعد أن يجلي النهار مجون الليل فتعود لبؤسها في حالة اليقظة، لتكتشف أن الثمالات التي غمست نفسها بها ليست إلا سكرة روح عابرة ستتخذ بعدها كل الأشياء صورتها الطبيعية..
وأخرى تحاول جاهدة الحفاظ على صورة العائلة بوضعها ضمن برواز أنيق، حيث تقدم كلّ التنازلات الممكنة حتى وإن كان فيها نوع من الشذوذ أو الخروج عن المألوف في سبيل تهدئة الاهتزازات القوية التي تهدد وحدة العائلة،
إن هذه الشخصية الواعية تنظر للعائلة على أنها وحدة و ليس مجموعة، في هذه الحالة عليها أن تستميت في الدفاع عن هذه الوحدة كي لا تنعطب كاملة بفساد جزء منها، لكنها فشلت مثلما هو الأمر في غالب الأحيان عندما تكون الطرف الوحيد الساعي للإصلاح، فاليد الواحدة لا تصفق أبدا.
والزوجة التي تخون زوجها بعلمه، مبررة لنفسها خطيئتها بأنه رجل ضعيف لا حيلة له وهي تحتاج لرجل قوي يشعرها بكينونتها، وموقف زوجها الذي يبدو للقارئ شخص حيادي ليس لديه بواعث قوية يحارب من أجلها للحفاظ على كرامته و أحقيته وحده بزوجته و كل ما يرمي إليه إشباع شهوته في ظل وجود زوجة يحبها على أن وجودها بالنسبة له مكسب بحد ذاته، وكأنه مُلزم بهذه العلاقة الخبيثة.
لكن في حقيقة الأمر لديه رغبة بأن تتغلف هذه العلاقة الزوجية بالطهر، يتوق لممارسة حياة طبيعية يستعيد من خلالها ثقته بنفسه، لكنه يفتقر للإرادة المغموسة بوحل الخوف من شيء لا يعلمه أو ربما يعلمه لكنه يتعامى عنه.
تبدأ أزهار الحب بالتفتح في قلب أنثى سيمتها مراوغة شهوة الرجال دون أن يظفر بها أحد، لا يمنعها سوء هذا القدر الكبير من الحماقات التي تقترفها من فعل أي شيء في سبيل إذلال أكبر عدد ممكن منهم في محاولة للانتقام لنفسها بعد تعرضها لعدة مواقف في حياتها قادتها لعيش الحياة بهذه الهيئة.
فتقع في حب رجل هو الوحيد مَن خذل حماقتها ممن راوغتهم، جميعنا نعرف المقولة المشهورة (كل ممنوع مرغوب) وعليه فإن الفتاة حين تمنّع عنها البطل، بدأ يوقظ فيها شراسة الأنثى التي لا تقبل الهزيمة،
أصرّت على الإيقاع به في شركها، حتى وقعت في حبه نظرا لاختلافه عن باقي الرجال الذين قابلتهم في حياتها، وكذلك وقع في حبها هو الآخر.
وبمجرد أن غلّف الحب العلاقة، تعتبر العلاقة عميقة، فالأشياء تكتسب صفة العمق بمجرد أن تكون الفكرة التي ترافقها عميقة، ومن هنا يبدأ صراع بين الحب و الضمير.. لكن مَن سينتصر؟
بقي أن نقول إن الحبكة المتقنة التي رسمها حامد الشريف خلُصت إلى لوحة مُبهرة عنوانها زيف القصاص، لوحة معلّقة على جدار الإبداع و التميز.
** **
- صفاء الأحمد