ما أكتبه في أستاذي عبد الله الغذامي ليس مديحًا ولا إطراءً، فهو أكبر من ذلك، بل إن ما أكتبه شهادة أدبية بالمفهوم الذي اقترحته في ورقتي المنشورة في مجلة كلية دار العلوم بالمنيا سنة 2014م. وجاء فيها: الشهادة الأدبية: سرد نثري تذكري قصير صادق مُدْرَك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، يشهد به شخص واقعي لإثبات حقائق أو رد دعاوى تتعلق بالمسار الأدبي (لشخص أديب، أو موضوع أدبي، أو قضية أدبية)، منتقيًا من مراحل الحياة الماضية أبرز الوقائع والمعلومات، والتجارب والذكريات، التي شكلت التجربة الأدبية وسلكتها في مسارها ومستواها الأدبي الراهن، مستدلاً بها على ما يريد أن يشهد به في زمن الشهادة، مستدعيًا ما أمكن من البيانات والوثائق والأسانيد ما يؤكد صدق شهادته، وموظفًا من فنيات السرد ما ينقل النص الشهادي من حيز التقريرية إلى آفاق الأدبية. وبالرغم من ذلك أعترف أن أستاذي بريء كل البراءة من حيادي الموغل فيه.
تنقسم شهادتي في أستاذي قسمين، الأولى سماعية تشبه إلى حد ما قصة الشيخ علي العمير مع المؤلفين التي حللها الغذامي في كتابه ثقافة الأسئلة، والأخرى مباشرة، لذا يحسن بشهادتي أن تستعين بأبي حامد الغزالي في مقاربته الدال والمدلول ورصده حركته في أربعة محاور أو وجودات: العيني، والذهني، واللفظي، والكتابي, وسأكتفي بالوجودين: الذهني/السماعي، والعيني/المباشر، حسب مرحلتي معرفتي الدال العائم أو المشهود عليه أستاذي الناقد.
-1-
أشهد أن اسم عبد الله الغذامي ظهر في حياتي (وجودًا ذهنيًا) قبل أن ألتقيه شخصيًا، وفي هذه المرحلة السماعية أراني واحدًا من المائة شاهد الذين يهدد بهم محامي الدفاع المدعي قائلاً: مقابل كل شاهد عيان تحضره سأحضر مائة شاهد لم ير موكلي يطلق النار. فحين اتصل بي الدكتور عبد الله السلمي من جدة يطلب مني المشاركة في تكريم أستاذي الغذامي أحسست بأصوات المحبة وحداءات أسفار الغربة والترحال لطلب العلم والذكريات تنادي عليَّ من كل حدب وصوب، انبجست أمامي عيون أكثر من ربع قرن، ففي أواخر الثمانينيات الميلادية، التحقت بالجامعة وعرفت الصحف والمجلات، وعرفت اسمًا كان ولما يزل ملء السمع والبصر: عبد الله الغذامي، وكتاب الخطيئة والتكفير، والسجالات التي دارت حوله على مستويات الساحة الثقافية وأروقة قسم العربية الذي كنت طالبًا فيه في فرع جامعة الملك عبد العزيز في المدينة المنورة، وحضرت في نادي المدينة الأدبي محاضرات لرموز التيار المناهض للحداثة وقتها، فتكونت لديَّ صورة ذهنية لما يجري في الساحة من تجاذبات، ولذلك الرمز المتخلق في ذهني عبر صوره في الصحف ومقالاته وكتبه وسجالاته ومقابلاته الصحفية (الغذامي).
قررت في منتصف دراستي الجامعية عام 1990م مواصلة دراساتي العليا، طموح كبير في ذهن شاب ذي إمكانات أقل من محدودة، تخرجت، اضطرتني ظروف الحياة للاتحاق بمهنة التعليم، حاولت الالتحاق ببرامج الدراسات العليا في جامعتين من بين خمس جامعات سعودية كانتا تقدم البرنامج في ذلك الوقت، ولم أُقبل في أي منهما، مع علمي يقينًا بأنني نجحت في اختبارات القبول التحريرية الصعبة التي كان اجتيازها شرطًا لدخول المقابلات الشخصية التي حضرتها، وعندما كنت أسأل عن الأسباب، لم أجد جوابًا إلا من أصدقاء خاصين جدًا وبصورة سرية، يا محمد أنت تنشر قصائد تفعيلية وقراءات نقدية في الصحف، ولذلك فأنت محسوب على الحداثة. عندها أدركت ألا مجال للدراسة في الوطن، ولم تكن جامعة الملك سعود حينها تقدم برامج دراسات عليا لألتحق بها, فاضطررت في أواخر عام 1998م إلى أخذ إجازة دراسة والالتحاق ببرنامج الماجستير في الجامعة الأردنية، وفي النفس ما فيها من الشعور بالحرمان وعدم التمكن من الدراسة في الوطن.
كان أول مساق علمي أحضره في الجامعة الأردنية مساق: مناهج النقد الأدبي الحديث لدى الدكتور إبراهيم السعافين في مكتبه حين كان رئيسًا للقسم، استأذنت للدخول وجلست في مقعدي وكان أول اسم نقدي يصافح مسمعي: الغذامي، حيث كان الزميل إيهاب ريمون يعرض منهجًا نقديًا ويردد اسم الغذامي في كلامه، وفي نهاية المحاضرة سلمت على الدكتور السعافين ودار بيننا الحوار الآتي:
- أنت الأخ الذي من السعودية؟
- نعم.
- حياك الله.
- أنت مبتعث يا محمد؟
- لا، على حسابي الخاص.
- جامعاتكم قوية ومجانية وعندكم الغذامي لِمَ لم تدرس عنده؟
- هكذا شاءت الأقدار.
- موفق!!!
كان من بين الحاضرين في الدرس الطالب علي بن تميم، أخي وصديقي الحاضر معنا في هذا اللقاء بشخصه وفكره ووفائه، خرجت من المكتب بصحبة السعافين، ودعته وإذا بعلي بن تميم في مكتب سكرتيرة القسم، أخمن أنه سمع الحوار، بادرني بالسلام والترحيب:
- مرحبًا محمد، أنت من السعودية؟ ودار بيننا حوار طويل لم يخل من كتب الغذامي وأطروحاته وأخوة تزيد مع الأيام!!!
لم يقف استحضار صورة الغذامي الثقافية والنقدية والعلمية مصحوبة بالفخر والتأنيب والشوق عند أستاذي ومشرفي الدكتور السعافين وأخي بن تميم، بل كان يتجدد بوقعه الإيجابي الممزوج بالفخر والحرمان في لقاءاتي مع زملائي الطلاب وأساتذتي في القسم مثل: ناصر الدين الأسد، وإحسان عباس، وحسين عطوان، ووليد سيف، وإبراهيم السامرائي، وصلاح جرار، وغيرهم. وما في اليد حيلة!!! هكذا كانت الصورة الذهنية للغذامي تحاصرني ثقافيًا في الداخل والخارج لسنوات قبل أن ألتقيه شخصيًا. كنت خلالها أتابع وأقرأ كل ما يكتبه في ملحق الخميس بصحيفة الرياض تحديدًا، احتفظ بمقالاته وثائق علمية وما أن تجتمع لدي كمية منها حتى أفاجأ بصدورها في كتاب فأرى ما كان منجمًا قد تحول أطروحة متكاملة الأركان، حدث هذا معي منذ حكاية سحارة إلى ما تلاها من كتب، إلى أن غير أسلوبه في التأليف، وبوصفي متابعًا لما يكتب ومحاولاً تعرف طريقته في الكتابة والتأليف وتطوراته العلمية المتتالية أستطيع وصف المسار العلمي للغذامي بأنه دال عائم لا يحد بمدلول، فتارة تجده ناقدًا يشتغل على المتون الشعرية بأدوات النقد الألسني المابعد بنيوي مسترفدًا السميولوجية والتشريحية والأسلوبية، في عمق تراثي أصيل يعي الضفتين العربية والغربية بمستوى واحد، فمراجع كتبه تضم القرطاجني والغزالي والعسكري والمبرد والجاحظ وابن خلدون وغيرهم من علماء العربية السلف إلى جانب سوسير ودريدا وياكبسون وبارت..إلخ.. كنت أقرأ الأطر النظرية لكتبه محاولاً تلمس أسلوبه في العرض وطريقته في الطرح والتنظير والدفاع عن الفكرة فأجده يقتبس نصًا من مرجع غربي ثم يردفه بنص مقتبس من عمق التراث العربي الأدبي، وأبرز ما يدل على ذلك مقابلته بين ياكبسون والقرطاجني في نظرية الاتصال وعناصرها الستة، فبعد أن يترجمها عن ياكبسون ويفصل القول فيها ينتقل إلى حازم القرطاجني مقتبسًا من منهاجه أربعة عناصر صريحة من نظرية الاتصال (الخطيئة والتكفير ص7-15) فتجد نفسك في لحظة واحدة في زمنين مختلفين وثقافتين مختلفتين، ولغتين مختلفتين، وفكرة واحدة، فتصلك الفكرة وتستشعر النتيجة بأن الاستشهادات في البحث العلمي ليست بكثرتها ولا بجدتها ولا بتنوعها بل بقيمتها المعرفية وقدرة الباحث على الربط والمقارنة والاستنتاج وخلق فكرته الخاصة وطريقته التي تميزه في الطرح وتدعم دعواه المعرفية في أطروحته، هذا الربط لا يتأتى إلا لمن وعى التراث العربيلأصيل وخلاصة الفكر الغربي النقدي الحديث. ومثله الكثير من الشواهد في نتاجه الغزير. ومثلما يتنقل الدال العائم بين اللغات والثقافات، نجده يتنقل بين الأطر المعرفية فلا تستطيع أن تحده بمدلول، إذ كثيراً ما يفاجئنا بأطروحات جديدة ومثيرة وعميقة، فمن النقد الأدبي ونقد الجماليات، إلى نقد القبحيات وتكاذيب الأعراب، ولعبة البلوت، وحكاية السحارة، وحكاية الحداثة، وموت النقد الأدبي، ثم إلى دراسات المرأة، فالنقد الثقافي، فالثقافة التلفزيونية، إلى ما بعد الصحوة...إلخ، سلسلة متواصلة من الأطروحات والمفاجآت المعرفية التي لا تعترف بالإطار المعرفي الواحد، تمامًا كالإشارة الحرة والدال العائم. هذا هو المتصور الذهني الذي أحمله للغذامي قبل أن ألتقيه شخصيًا.
-2-
أما الوجود العيني وعلاقتي المباشرة بأستاذي الغذامي، فأعترف أنني في عام 2002م التحقت ببرنامج الدكتوراه في جامعة الملك سعود، وارتحلت من المدينة إلى الرياض وكلي حماس وشوق لمقابلة الشخص ومطابقة المتصور أو الوجود الذهني بالموجود العيني، تجولت في أروقة قسم العربية لأتعرفه، أسير وأقرأ لوحات الأسماء المثبتة على واجهات مكاتب الأساتذة إلى أن وصلت مكتب الغذامي فوجدت على باب مكتبه شيئين، الأول: لوحة معدة من القسم مكتوب عليها اسمه أ.د. عبد الله الغذامي، والآخر: وريقة ألصقها هو على زجاج مكتبه الخارجي مكتوب فيها (إذا سمعت الرجل يقول: ما ترك الأول للآخر شيئاً فاعلم أنه لن يفلح) مذيلة بتوقيع: أبو عثمان الجاحظ. كانت هذه أول وأبلغ محاضرة تلقيتها في جامعة الملك سعود، فقد عرفت المرتبة العلمية للغذامي، وتساءلت لِمَ لم يكتبها قبل اسمه في مقالاته وعلى أغلفة كتبه، فعلمت أن الدرجات العلمية في الجامعات مستويات وظيفية لا تعني بالضرورة العلم والفهم، وإنما درجات العلماء يحددها نتاجهم العلمي، فقطعت عهدًا على نفسي أن لا أضع لقبي العلمي قبل اسمي في أي كتاب أو أي منصة خارج الجامعة، والأهم من ذلك أنني عرفت القيمة الحقيقية للعلم، أما عبارة الجاحظ، فاختيار وإبراز، والعرب تقول: اختيار الرجل قطعة من عقلة، ألم يجد الغذامي في كل ما قرأ غير هذه العبارة ليختارها ويعلقها على مكتبه؟!! عبارة أشعرتني بأهمية التحدي وأن قيمتي المعرفية بالهضم والتراكم والتجاوز ومحاولة الإتيان بجديد ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. فقلت في نفسي وصلت الرسالة أيها الأستاذ ومضيت. ولم تكن المادة التي يدرسها الغذامي في الفصل الأول ولم أقابله خلاله إلا لمامًا نظرًا لكثرة الأعباء الدراسية وتباين أوقاتنا في القسم.
ثم بدأ الفصل الدراسي الثاني وسجلت مادة (نظريات النقد الأدبي المعاصر) لدى الأستاذ الغذامي، كنت الطالب الوحيد في مسار الأدب والنقد في القسم، فكانت المحاضرة في مكتبه، لا أخفي عليكم أنني لم أصدق طيلة الفصل أنني أدرس عند الغذامي، أصابتني دهشة القدوم بنوع من الارتباك لأنني أحمل له في ذهني صورة لم أجد لها وصفًا أصدق من وصف الغذامي نفسه حين قال في دراسته الموسومة: في جدة: موت المؤلف/حياة المؤلف، حيث يقول (إننا كثيراً ما نحس بالتبجيل للمؤلفين الذين لم نرهم، أو قد نحس برهبة وخوف لأولئك الجادين من الكتاب) (الغذامي - ثقافة الأسئلة- ص 185)، ارتباك لاحظه الأستاذ وشعرت أني بدوت دون المأمول في نظره وفي نظري، يسألني فأجيبه عموميات لا فائدة فيها، لكنه احتواني إنسانيًا ومعرفيًا وأشعرني أنني أستطيع، وأصبح يعاملني كأخ وشجيرة قابلة للنمو والإثمار، كثيراً ما كنت أخيب ظنه متعمدًا، وأقول متعمدًا لأنني كنت أريد أن أسمع رأيه وأرى كيفية تعامله مع الموضوعات التي يكلفني بها، خاصة تحليل النصوص، كنت ولا أزال أؤمن أن الناقد القوي مثل الجراح البارز، لا يمكن أن تصل مستواه أو تكتسب مهارته في إجراء العملية ما لم تدخل معه حجرة العمليات وتشاهده يجريها أمامك أكثر من مرة إلى أن تشعر بالثقة في نفسك لإجرائها بمفردك. وهذا لعمري من مكر الطلاب الذي مارسته على أستاذي الغذامي لأتعلم، ومن وجد الحيلة فليحتل، حلل الأستاذ أمامي أكثر من نص وهو منفعل من بلاهتي فأدركت طريقته ووصلت مرحلة الثقة المبدئية بذاتي النقدية، حلل نصًا للسياب، ونونية الرندي، وغيرهما، فلخص لي طريقته في تحليل التفعيلي والعمودي، ولم يأخذ النص معه أكثر من بضع دقائق حتى يفككه ويعيد بناءه ليريني سهولة العمل الذي لم أفلح في إنجازه، ولأنني طالب وعليَّ أن أنجح في المادة وقبل النجاح تعديل صورتي التي شوهتها دهشة القادم ومكر الطالب المتعمد، قررت أن أكتب بحثًا وأقدمه لأستاذي - من غير أن يطلب - ليعرف مستواي الحقيقي وأغير صورتي المعتمة عنده، كان كتابه النقد الثقافي حديث الساحة، وكان قد أعلن موت النقد الأدبي، ولأبين له أني هضمت - إلى حد ما - كتبه التي سبقت كتاب النقد الثقافي اخترت النقد الثقافي مدخلاً نقديًا ولامية ابن الوردي متنًا تطبيقيًا، وفي أحد اللقاءات أخبرته بأني كتبت بحثًا أود عرضه عليه، لم يتحمس بادئ الأمر، لكنه جاملني وقال: دعه معك، وتحدث لي عنه، قلت:نوانه: (بنية الخطاب الوعظي: المضمر النسقي في لامية ابن الوردي)، نظر إليَّ نظرة من يعيد اكتشافي من جديد، وكأني به يقول هذا الذي يسأل عن الأسلوبية والبنيوية والسميائية والتفكيكية يبحث في النقد الثقافي، استعان بالله وتأهب للاستماع، وقبل أن أنهي عرض أسئلة بحثي المعرفية، رأيت ابتسامة السرور على محياه ونظرة الاكتشاف في عينيه، أكملت حديثي عن بنية الوعظ ومكوناتها من الواعظ والموعوظ والعظة، ثم انتقلت إلى الانساق المضمرة في بنى النص أفككها واحدًا تلو الآخر، كان الغذامي متكئًا فجلس، قام من مقعده طربًا بما سمع، فتح باب المكتب، ثم التفت إليَّ وقال: ستلقي هذا البحث في ندوة مجلس القسم الذي يعقد أسبوعيًا، لا أخفيكم أني تهيبت الموقف لما قد يجره عليَّ من تبعات، فاعتذرت منه متذرعًا بأني لم أعده لذلك، بل أحببت فقط تقييم مستواي وأصحح صورتي لديك، وكثير على طالب مثلي أن يلقي بحثًا في ندوة يحضرها كبار النقاد من أعضاء القسم، قال لا كثير ولا قليل هذا ما يجب أن يلقى في ندوة القسم، كان مكتبه قريبًا من مكتب رئيس القسم، ذهب ليحدد موعد ندوتي مع رئيس القسم، وكانت الساعة تقارب الرابعة عصرًا فلم يجده، وأسر في نفسه أن يرتب اللقاء وأقدم البحث، إلا أنني كررت اعتذاري فتفضل بقبوله، وقال: الآن اطمأننت عليك، ودعته وخرجت أحمد الله أن مضت الحقبة السابقة من اللقاءات على خير وأنني استطعت أن أقدم بحثي بما يليق بي ويرضي أستاذي. وظللت محتفظًا بالبحث إلى أن حزت درجة الأستاذية، لم أنشره في أي مكان، ولم أوظفه في الترقيات العلمية، بقي في مكتبتي بصورته الأولى طاقة إيجابية وجواز سفر إلى عالم النقد، وشهادة تعادل في نظري كل الشهادات والدرجات العلمية، ولم أفرج عنه أبداً إلا بعد مضي ستة عشر عاماً من كتابته، ففي عام 2018م هاتفني أخي وصديقي الأستاذ الدكتور معجب العدواني رئيس قسم العربية في جامعة الملك سعود ودعاني إلى تقديم محاضرة في الندوة الأسبوعية للقسم، الندوة ذاتها التي حاول أستاذي الغذامي تقديمي من خلالها عندما كنت طالبًا لديه عام 2002م، فدارت بي الأيام والذكريات وصمت إلى أن قال لي معجب أنت معي؟ قلت نعم وقصصت عليه الخبر السابق، وقدمت البحث في ندوة القسم يوم الثلاثاء 5-4-2018م أي بعد مضي ستة عشر عاماً من كتابته. والندوة منشورة في اليويتيوب لمن أحب مشاهدتها.
اجتزت السنة المنهجية الدراسية بنجاح، واجتزت الاختبار الشامل، ووصلت إلى مرحلة وضع الخطة واعتمادها، ومن التقاليد الأكاديمية أن يعين لطلاب الدراسات العليا مرشدًا أكاديميًا، فعين القسم مرشدًا لي من الإخوة العرب المتعاقدين، وقد وافق في تلك الفترة صدور كتابي (شعر غازي القصيبي دراسة أسلوبية) في سلسلة كتاب الرياض، وكنت أسمع إشادة أعضاء القسم بالكتاب ومن بينهم مرشدي الأكاديمي، قدمت له خطة التشكيل البصري فرفضها جملة وتفصيلاً بحجة صعوبتها وغرابتها على الوسط الأكاديمي وأن موضوعها بيني هجين، مقترحاً عليَّ اختيار باب توظيف التراث من كتابي شعر غازي القصيبي وتعميمه على الشعر العربي الحديث أو الشعر السعودي، رفضت اقتراحه من جانبي، وأخبرته بأن ما يراها مبررات رفض هي ذاتها مبررات اختياري للموضوع، وأني لا أريد تكرار ذاتي، لكن مرشدي حمل نقاشي معه على محمل التحدي، فزاد في عنته، وصارت قضيتي حديث القسم، وشكل إصراري على موضوعي جبهتين في المجلس، وبلغني من بعضهم أن الغذامي يعترض على الموضوع، لم أصدق ما سمعته إطلاقاً، لكن حيرتي زادت عندما انعقدت لجنة الأدب والنقد في القسم للبت في موضوعي وأخبرني رئيس القسم الدكتور عبد الرحمن السماعيل بقرارها قائلاً: لم تتفق اللجنة على رأي، وقررت استدعاءك للحضور معهم وعرض موضوعك بنفسك، وأبلغني مع القرار أنها المرة الأولى التي تستدعي اللجنة طالبًا لعرض موضوعه، إذ في الغالب إما الموافقة وإما الرفض وينتهي الأمر. انتابتني حالة من القلق، فقد تلافيت سابقاً تقديم ورقة علمية في مجلس القسم لأتجنب لقاء اللجنة بالرغم من أن الورقة حازت قبول الغذامي، واليوم أجدني مرغمًا على لقائهم لأعرض موضوعي!!!، انعقدت اللجنة في قاعة حازم القرطاجني، حضرت على الموعد، دخلت القاعة وإذا بالقوم قد تحلقوا على الطاولة البيضاوية تاركين مكان الرئيس شاغرًا، قال لي الغذامي استرح هنا يا محمد، قلت هذا مكان الرئيس، قال هو مكانك اليوم، وطلب مني عرض موضوعي ومبررات اختياره وطرق معالجته، تحدثت عن موضوع التشكيل البصري وعرضت وبررت وناقشت ودافعت، ثم قالوا لي تفضل بالانصراف، خرجت وللقوم جلبة، ولمستقبلي العلمي والدراسي صورة غير واضحة المعالم، بقيت في أروقة القسم انتظر القرار، فجاءني الرد بأن اللجنة لم تتفق على رأي، وقررت استدعاءك للحضور معهم مرة ثانية وعرض موضوعك مرة أخرى في موعد انعقادها الأسبوع القادم، وكانت رالة واضحة لي بأن الخلاف على الموضوع بين أعضاء اللجنة ازداد اتساعًا وأنه لم يحسم بعد، وقد يلغى. عدت في الأسبوع القادم قبل الموعد بنصف ساعة، زرت مكتب الغذامي لأتلمس الخبر فلم أجده على غير العادة، في طريقي إلى قاعة القرطاجني قابلني عضو اللجنة الذي أخبرني باعتراض الغذامي على موضوعي وقال لي بنبرة التشفي، لن يحضر أستازك النهار ده فبالأمس كان في لقاء مع قناة فضائية مرموقة - لا أتذكرها الآن - ومضى، وقفت في الممر المقابل لباب قاعة القرطاجني وما هي إلا دقائق وإذا بالغذامي يأتي وفي يده كوب شاي والابتسامة تعلو محياه، سلَّم عليَّ وقال - بنبرة من يقول تشجع - هاه يا محمد خائف؟!!!، قلت له وأنا غير صادق: لم الخوف والنقاش مع علماء فضلاء أعرف أقدارهم ويعرفون قدري؟!! قال ولا يهمك ما في إلا كل خير، دخل القاعة، ولم أجد في نفسي كلامًا أزوره للجنة، فما الذي تريد اللجنة سماعه مني بعد اللقاء الأول الذي قلت فيه كل ما عندي وليس لدي ما أقوله اليوم، دخلت مرتبكًا، وجلست حيث جلست سابقًا، ورأيت في أوراق بعض الأعضاء ما أظنه أسئلة واعتراضات على الموضوع، بدأ بعضهم بتقديم اعتراضاته والمفارقة أن أول المعترضين كان الشخص الذي أبلغني باعتراض الغذامي على الموضوع، قاطعه ثان وثالث ولم أرد على أحد لتداخل أحاديثهم، وفي لحظة تحدث الغذامي بنبرة من يدير الحوار ويضبط المجلس قائلاً: يا إخوان المرة الماضية سمعنا منه، وهذه المرة لابد أن يسمع هو منا ما يثري موضوعه، معك ورقة وقلم يا محمد؟، نعم، سجل ملاحظاتك، وبدأ بتوجيهي إلى مداخل الموضوع ومخارجه وأبرز مدوناته التطبيقية، والمناهج والنظريات النقدية التي تستجيب إليه وتعطي فيه، فتبدلت اعتراضات بقية أعضاء اللجنة إلى توجيهات، وتبدلت حالي من اليأس إلى الأمل، فمن لوازم القول والحال في تلك اللحظة أن الموضوع موافق عليه، خرجت من اللجنة ومعي الموافقة على الموضوع بفضل الله ثم بانتصار أبي غادة للموضوع ووقوفه في وجه المصادرة واحترامه رغبة الباحث. ثم علمت لاحقًا أنه هو الذي اقترح على اللجنة أن تستدعي الطالب إلى اجتماعها لسماع رأيه ودفاعه عن موضوعه لتتأكد من مقدرته على العطاء في بحثه ويقطع الشك باليقين.
** **
- أ. د. محمد سالم الصفراني