يرمي هذا المقال إلى تحليل شخصية المرأة كما صوَّرها الكاتب الشاب طارق عبيد الذي لم أجد له سوى بعض قصص قصيرة منثورة على صفحات السوشال ميديا، والذي استوقفني عند هذا الشاب هو قدرته غير العادية على رسم الشخصيات وبناء الحبكة الدرامية وطرح الثيمات بمهارة واقتدار عاليين. تتعدد صور المرأة في تلك القصص فلا تختزل في ثنائية «ملاك وشيطان» التقليدية، فالمرأة في القصص المنشورة للكاتب تتعدد زوايا معالجتها للأنثى، فتارة هي «فتحية» الأم التي «ككل أمهاتنا الطيبات تولد ومعها خليط عجيب من صفات لا توجد في مكان آخر، تحفظ جينات أيزيس، وكأن التضحية خلقت لها حصراً دون نساء العالمين». وتارة هي الزوجة الوفية التي تتعرض لفتنة «البحث عن شريك» وتجد ارتباكاً لأنها سمحت «لنفسها بالتفكير في رجل غير زوجها وزادتها الوساوس حيرة وشعرت بحمى تجتاح جسدها.. إنها لم تكن بهذا الضعف والارتباك من قبل.. وكيف أنها كانت تعنف صديقاتها عندما كن يحكين لها عن مغامرتهن مع رجال آخرين غير أزواجهن»، وتارة أخرى هي «فرح» المرأة العجوز التي تمثل لغزاً لأصحاب القرية ولا يعلم عنها أحد شيئاً، فأهل القرية قد نسجوا حولها الأساطير التي تخلط الحقائق بالخيال وتركوها في عزلتها لا يلحظها أحد وهي «تشدو بصوت حزين أغاني عن ضياع العمر وغياب الأحباب».
ولنبدأ بشخصية «فتحية» التي تمثل ما يسميه د. جمال حمدان الاستمرارية والانقطاع في الشخصية المصرية، والواقع أن شخصية فتحية هي شخصية مثيرة للدهشة وللرهبة في آن واحد، وإثارتها للدهشة والرهبة تكمن في أنها زوجة وإم منتجة لا مستهلكة، وهي نموذج للفلاحة العاملة التي ترى تحقيق ذاتها - self-actualizatin حسب تعبير إبراهام ماسلو في نظريته عن هرم الحاجات الإنسانية في كفالتها لأسرتها وإعالتها لهم، فهي مصدر لإشباع الحاجات المادية والحاجات النفسية كالحب والعون والتقبل النفسي، والذي يبدو واضحاً من الاتصال النفسي الصحي بينها وبين زوجها أحمد «الذي أكلت البلهارسيا جزءًا من كبده فتركته كالشجرة الخاوية على عروشها لا يستطيع أن يعمل». حيث يشتبك معها زوجها في السخرية من أحداث القدر الذي جعل حيوان العرسة يترصد لإحدى دجاجات فتحية وبقنصها فتشعر فتحية بالسخط تجاة هذا العرس الذي استطاع أن ينال من ثرونها الداجنة، ويبدو الاتصال النفسي الصحي في أسرة فتحية في محاولة زوجها أحمد أن يخفف من وقع صدمتها ويخبرها أنها لم تخسر المعركة وهو يخفي نصف ابتسامة على وجهه الهزيل وأن تلك العرسة ليست حيوانًا وإنما روح محمد زوزو الذي قتل منذ عشر سنوات في منزل الشيخ منصور في آخر الشارع، ويذكرها بمعاركها المستمرة معه قبل أن يقتل وأن عفريته يعود كل يوم مع الفجر لينتقم منها». تبرز تلك الدعابة جانباً آخر من جوانب الحياة في الأسرة المصرية الكادحة، ألا وهو جانب القبول الفطري بل والتصالح الإيجابي مع تقلبات الأقدار، فبرغم الفاقة والحاجة واعتلال الجسد، تظل الفكاهة والدعابة هي وسيلة أحمد في تخفيف الأعباء عن كاهله وكاهل زوجته، فهو لم يسب الدهر ولم يلعن العرس ولم يسائل الأقدار، بل طور إستراتيجية فولكلورية للسخرية من الأزمات ولاعتياد المصائب، فها هو التفاهم العائلي الذي لا يجعل أحمد عبئاً على الأسرة ولا يجعل فتحية مقصرة في أدوارها. إن التوزيع الفطري لأدوار أعضاء الأسرة في قصة فتحية هو من أسرار القوة في المجتمع الريفي، وتلك الأسرة ليست أسرة مثالية أو نموذجية بل هي أسرة يتخللها الغضب والشكوى بل والصريخ أحياناًً، فقد «اعتاد أهل الشارع سماع صوت فتحية وهي تصب اللعنات على تلك العرسة التي تكسب معركتها كل يوم».
أما قضية «بحث المرأة عن شريك» فهي قضية يتناولها الكاتب بحرفية شديدة، حيث يتم التعامل معها على ثلاث مراحل، الأولى الفراغ العاطفي الذي تعاني منه الزوجة في القصة وافتقادها لزوجها الغائب دائماً عن المنزل نظراً لطبيعة عمله، وهنا تبدو لحظة الصدمة عندما تبدأ الزوجة في تأمل ألبوم صور لها وزوجها وتتعجب لما يبدو لها زوجها غريبًا ثم تجد صورة د. أحمد مقتحمة ذهنها، ويبدو رد الفعل الكاشف عن مشاعر الزوجة حيث أغلقت ألبوم الصور «أقتحم دكتور أحمد المشهد فاختلط صورته مع صورة زوجها، تستفيق وتغلق ألبوم الصور سريعًا.. ما الذي جعلها تستحضر صورة أحمد فهو مجرد طبيب أولادها»، في تلك اللقطة الخاطفة نجد ما يسميه النقد الأدبي «جماليات التجاور» Aesthetics f Cntiguity، فبروز الشخصيتين معاً (شخصية الزوج وشخصية د. أحمد) يشير إلى مشاركتهما في ملكية ذهن الزوجة، أحدهما ملكية شرعية وطبيعية والثاني وجوده في المشهد هو وجود غير مبرر، وتتجلي عبقرية رسم رد فعل الزوجة حيث انقسمت استجابتها إلى مستويين أحدهما واعٍ والآخر لاواعٍ، أما على مستوى الوعي فقد «ارتبكت وقطعت تفكيرها واستسلمت للنوم»، وأما على مستوى اللاوعي فقد أغلقت ألبوم الصور الذي يحمل صورة زوجها والذي يمكن قراءته على أنه ازاحة نفسية وفعلية لشخص الزوج من واقعها المنظور والمعاش lived and visual perspective. ثم تأتي المرحلة الثانية في تطور رحلة البحث عن شريك حيث تعيش بطلة القصة الصراع بين رغبتين متناحرتين tw cnflicting desires وهما تعلقها الشديد بـ د. أحمد ورفضها العنيف لفكرة الخيانة وفي مقاومتها لاندفاعها العاطفي لما يبدو أنه تسونامي من المشاعر المتفجرة، تلجأ بطلة القصة إلى زوجها فتهاتفه وتلح عليه في ألا يطيل الغياب ثم تطلب المساعدة من الله فلعل صلاتها تنقذها مما هي فيه، وأخيراً وبعد أن سئمت محاولات البعد التي لم تجد نفعاً، كانت المرحلة الثالثة والتي عقدت فيها العزم بأن تطلب العون من د. أحمد فذهبت للقائة لتحدثه عما بها وتطرح من الأسئلة ما ليس له إجابة «تحدثت بصوت يغلبه البكاء لماذا نُبتلى دائماً فيما لا تطيق..كيف أُتهم بالخيانة وأنا من عشت عمري أنثر الإخلاص على كل من حولي.. هل من العدل أن تترك المرأة تذبل قطعة قطعة كالنخلة العجوز وأن يُسرق عمرها في انتظار ما لا يجيء». ثم تنتهي القصة بأن تطمئن البطلة إلى كلمات د. أحمد وتسكن إليها وتطلب منه «رقم تليفونةالشخصي وعنوان بيته لتزوره!» تنتهي القصة نهاية بها الكثير من الإيحاءات إلا أنها تترك كل الأسئلة المطروحة في تيماتها معلقة وبلا إجابة.
** **
- د. عصام حجازي