د. محمد بن إبراهيم الملحم
أقصد بهم الجيل من المعلمين الذين شهدوا مستوى محترماً من الجدية في العمل التربوي وخرَّجوا أجيالاً من الطلاب المتفوقين اليوم في مختلف مجالات الحياة، هؤلاء عرفوا معنى «النجاح والرسوب» ومختلف أطياف الدرجات، بينما معلمو اليوم يفهمون أن درجات جميع الطلاب هي في المستوى الأعلى فقط، والأعلى جداً أيضاً، وأن مفهوم رسوب الطالب وإعادته للسنة الدراسية هو مجرد إشكالية ربما يترتب عليها شكوى ولي الأمر ولا تمر بسلام! مع إيمان المعلم أن إعادة هذا الطفل السنة الدراسة مفيد له ليتحسَّن ويتقن المهارات التي تعثر فيها بشكل كبير، ولكن لأنه يؤمن أيضاً أن تزويره للحقيقة ورفع درجات الطالب لينتقل للسنة التالية حتى وهو غير متقن لا يترتب عليه أية مشكلة أو شكوى أو لوم أو عتاب بأية طريقة من الطرق، وحدوث أي من هذه المضايقات (مع إمكانيته) هو من الغرائب النادرة جداً في عالم اليوم. الجيل الذي كان يستعد للدرس جيداً وربما يحفظ معلوماته عن ظهر غيب والجيل الذي يدرب يده على الكتابة على السبورة ليظهر خطه جميلاً ينعكس على خط طلابه حتى لو كان معلماً لمواد أخرى غير اللغة العربية، جيل يكاد ينقرض اليوم، فقد هرب أغلبه بالتقاعد المبكر وشبه المبكر من مضايقات البيئة الإدارية التعليمية المريضة، وهرب من تأرجحات النظام التعليمي وتخلص من قيود التعليم المفصَّل على مزاج جديد يختلف عن مزاجه التدريسي وقيمه في العمل، هذا الجيل تخرَّج أيضاً في جامعات جادة تقدم المعرفة العميقة وتسبر أغوار المتعلِّم ليتخرَّج قادراً على التعامل مع متطلبات تخصصه ولديه تصور جيد عن جوانبه المختلفة وقدرة جيدة على التحرك في مساحاته، وهو أيضاً قادر على تعليم نفسه وتطوير ذاته نتيجة للجو التعليمي الذي عوَّده الاعتماد على النفس بخلاف ما يجده خريجو اليوم في الجامعة من جو تعليمي سطحي نوعاً ما، أو ربما يكرر أسلوب المرحلة الثانوية التقليدي ولكن في ثوب جامعي باهت! فالمعلومات جاهزة والأسئلة معلبة والتدريس شكلي والحضور هو لأجل إثبات الحضور لا للدرس والسؤال والمناقشة والفهم.
قبل أن ينقرض هذا الجيل، سواء من كان منهم لا يزال صامداً في التعليم أو من خرج منه (ولكنه لا يزال على قيد الحياة!) كيف يمكن الاستفادة منهم قبل أن يتلاشوا تماماً؟ كيف يمكن ذلك قبل أن تجد حفيدك يقول لأبنائه لقد كان في تعليمنا قبل خمسين سنة أو أكثر نوع من المعلمين (لم ندركهم ولكن حكي لنا عنهم) متمكنون في ما يحملونه من المعرفة ومتميزون في طريقتهم في التدريس، وقادرون على جذب اهتمام الطلاب، بل قيل لنا إن طلابهم كانوا يحترمونهم مثل أبويهم وربما أكثر في بعض الأحيان! هل تصدقون يا أبنائي؟ ثم يفتح أولئك الأحفاد أفواههم غير مصدقين... تصوروا!
أعتقد أن هناك كثيراً من الأفكار والوسائل لذلك، سواء في السياق الرسمي أو غير الرسمي وهو الأفضل والأمضى أثراً في تصوري، حيث يمكن أن تكوّن لهم جمعيات ترعاهم وتجمعهم حول مهنتهم والمعاني السامية التي تدور عليها وتتحرك فيها، وهذه الجمعيات أو المؤسسات (أياً كانت) ولو نشأت في البداية بإطار اجتماعي يهدف إلى الترويح وتبادل المعرفة وتنمية الهوايات وبعض المنافع الأخرى لكي تجذب إليها أكبر عدد ممكن إلا أني واثق أنها ستتمكَّن لاحقاً من تكوين قنوات تربوية تضيف إلى المخرجات التعليمية من خلال أطر غير رسمية تستثمر من خلالها خبرات هؤلاء المعلمين وإمكاناتهم التعليمية في إفادة كل من الطلاب والجيل الجديد من المعلمين، وإن توفر تقنية المعلومات وقنوات التواصل الاجتماعي اليوم وسيلة مميزة لدعم مثل هذا التوجه وضم أكبر عدد ممكن من التربويين المخضرمين والعناية بهم وإعادة توظيف خبراتهم بطرق متجددة وممتعة لهم وللمتلقين منهم، وهذا متوقع جداً طالما أنه يتم خارج سياق المؤسسة الرسمية والوظيفة وما فيها من عنت القيود والممارسات المزعجة، فحينها أنا واثق أن هؤلاء سيقدمون أجمل ما لديهم، المهم: أدركوهم قبل أن ينقرضوا ويصبحوا حكاية تروى ...