د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** وقتَ الطلب في المغترب؛ فاجأه - في خطابهم العام - تقديمُ الـ»هُو» على الـ»أنا» فلا يقولون كما نقول: «أنا وأنت»، بل: «أنت وأنا»، وأوجد ذلك لدى صاحبكم موقفًا للتأمل أتبعه بالتمثُّل حدًا جعله يلغي ضمير الأنا من كتاباته ومكاتباته مستثنيًا «التوقيع» المحدِّد لمن كتب ولماذا كاتب، ووجد في ضمير الغائب متكأه في معظم مقالاته ومؤلفاته ومحكيَّاته، وأمضى زمنًا طويلًا كاتبًا منتظمًا ولا يذكر أنه أشار إلى نفسه بضمير وصلٍ أو فصلٍ، وخُوطب في هذا الشأن من أصدقاءَ مقتنعين أن «الأنوية» أقوى دلالةً وأيسرُ إفهامًا؛ فلم الالتفاتُ أو الالتفاف؟ غير أنه وجد مقتَه للأنا يزداد حدةً، ولم يقتصر على سطوره، بل امتدَّ إلى سُلوكه، ومنها المقعد الذي يختاره في المناسبات مؤثرًا المقعد القصيَّ، والمظهرية التي يكرهها فلم يألف «البشت» مثلًا وضادَّ فكرة لُبسه حينًا لم نكن نرى فيه نوعَ الملابس ولا أشكال الأجسام المتوارية داخله، وأنِس إذ رأى الأكثرين يتخلون عنه، ويذكرُ أنه وضعه على يده ليلة زواجه ودفع به إلى أقرب صديق حين انفض السامرون، وبقيت علاقته بدفئه فجرَ وليلَ الشتاء.
** قد يفسِّرُ هذا اصطباغَ «نصّه وشخصِه» بالهُويَّة العامة، واكتفاءَه بها، ويقينَه أنها مخرجٌ من اللجاج الأنويِّ والتضخم الوهميِّ؛ فحين «ينسى الطين أنه طينٌ حقيرٌ يصولُ تيهًا ويُعربد»- كما نظرية «أبي ماضي» في قصيدته الذائعة- ومن يرى عتبَ ثللٍ على أمكنة تجليسهم وأسلوبِ استقبالهم، وغضبَهم من تجاهل دعوتهم، وتحولَ فئامٍ منهم إلى نجومٍ « يطأُون الثرى مترفقين من تيههم» يقتنع أن «بدرَ بنَ عمّار الأسديّ» ممدوحَ المتنبي يقصرُ عن قامة أحدهم مع أنه واجه «الأسدَ الهِزبرَ بسوطه» لا القارئَ المسالم بصوته.
** ليس للصورة مقامُ الأصل، كما ليس للظلِّ وحشةُ المغترب، والمتسابقون نحو العدسات ستُعشيهم يومًا وسيجترُّون ذكرياتهم معها بشيءٍ من الحزنِ على حالٍ سبَق ومآلٍ لحِق، وفي بعض هذا ما يشرحُ امتلاء خطاباتنا بالنعي على الجحود والصدود والتنكر للقامات والمقامات، وليس هذا بحقٍ منتظم؛ فإنما انحسر عن أكثرِهم ضوءٌ اقتحموه ليأنسوا بالبقاء طمعًا بذاكرة الوفاء، والبونُ شاسعٌ بين من يُضيءُ ومن يُضاء.
** وبعد؛ فلم يكن صاحبُكم بدعًا في تحجيم «الأنا»، ويتطلع إلى تضخيم الـ»هوَ» والـ»نحن» والـ»هُم» و»هُنَّ»، وإذ يجدُ أصداءً لموقفه لدى قلة فلا بأس إن لم يسُدْ لدى الكثرة؛ فالأهمُّ أن نسعى لتخفيف غُلواءِ الذات وصلَفها، ولن يضيرَ الواثقَ بنفسه مكانُه، ولن يشكوَ إن لم يجد اسمَه ضمن «الوُسُوم المتحركة»؛ فللسكونِ معطياتُه المؤثِّرةُ غيرُ المستأثرة؛ وبه جاء قانون «نيوتن» الأول في «الجاذبية» وقانون «كولوم» في الكهرباء الساكنة، وبه يحيا المرءُ بطمأنينةٍ يتغيَّاها ولا يتفيَّاها فاقِدُوها، والظنُّ أنهم رقمٌ كبير.
** التواضعُ ليس ضَعة.