هدى بنت فهد المعجل
يذهب الفيلسوف «ميشيل فوكو» إلى أن حاسة السمع الحاسة الأكثر منطقية وعقلانية، الحاسة التي تستطيع أفضل من غيرها أن تستقبل العقل، وأنها الحاسة الوحيدة من بين الحواس التي بها نستطيع أن نتعلَّم الفضيلة. فلا يمكن تعلّم الفضيلة بالنظر. العقل لا يمكن أن نلجه إلا من خلال السمع وبفضل حاسة السمع.
إذاً السمع يمثِّل حاسة للعقل والمنطق. وبالتالي فإنه لكي تبلغ الحقائق روح المستمع، يجب على الأقل أن يتم النطق بها. ولكن لا نستطيع النطق بها من دون بعض العناصر المرتبطة بالكلمة ذاتها وبتنظيمها في خطاب. تلك العناصر يجب أن يتوفر فيها أمران على الأقل: أولاً طريقة وأسلوب القول والنطق. ثم استعمال نوع من التنوّع في الدقة في الكلمات. ذلك لأننا مع الاستماع نكون في عالم وفي نظام ملتبس. الأمر الذي، ربما يصل بالمستمع إلى الفهم الخطأ أو بمعنى أدق «وكما ذكر فوكو» المستمع معرض للخطأ وللتفسير الخاطئ بسبب عدم الانتباه. إذاً فالاستماع صعب مثل الكلام والتحدث. يمكن أن نستمع بشكل مفيد ويمكن أيضاً أن نستمع بشكل غير مفيد، أو بالأحرى من دون أن نجني أية فائدة، فلا نحصل إلا على السلبيات. الاستماع يحتاج إلى كفاءة ومقدرة وخبرة ومهارة وبراعة مكتسبة وتقنية. أضف إلى هذا أننا نحتاج لتطهير الاستماع المنطقي: فكيف نستطيع تطهير الاستماع، بالطبع هي الصمت والسكوت. في كل الممارسات التعليمية وفي المحادثات المتعلِّقة بالخطاب الحقيقي، يجب على الفرد أن يستمع ويستمع كلية وكاملاً من دون أن يتدخل أو أن يعلم نفسه. لماذا؟! لأن ميشيل يرى أن: الثرثرة العيب الأول الذي تجب معالجته عندما نبدأ في التعلّم والدخول فيه وفي الفلسفة تحديداً. إن الصمت شيء عميق وملغز ومقنع. وإن الأطفال الذين كان يتلقون تربية نبيلة حقاً في ذلك الوقت، يتعلمون أولاً وابتداءً الصمت، ثم لاحقاً الكلام، ولعلنا لو طبقنا ذلك خرج بالفائدة المبتغاة. إن فكرة أن الطفل يستطيع أن يتحدث بحرية قد تم استبعادها من النظام التربوي منذ العصر اليوناني والروماني القديم إلى غاية أوروبا الحديثة. إنها التربية على الصمت، حيث إنه لدى الثرثار خللاً نفسياً. فالأذن تتصل مباشرة باللغة، ما إن يتم قول شيء ما حتى يمر في الحال إلى اللغة، وبالطبع ذلك يضيع ويذهب ما سمعه سدى، إن كل ما يستقبله الثرثار بإذنه يضيع ويسيل في الحال في ما يقوله. إن الثرثار إناء فارغ على الدوام. لا نستطيع معالجة موضوع الثرثرة لماذا؟ لأن الثرثار لا يحتفظ بالعقل والمنطق، بل يتركه يسيل ويضيع في الحال في خطابه الخاص. ومما خرج به فوكو من أهمية الصمت قواعد أطلق عليها القواعد الزهدية للاستماع: وهي لزوم الصمت. بجانب الوضعية الجسمية المحددة والتي لها وظيفة مزدوجة، أيضاً على الروح أن تكون خالصة وصافية تماماً وغير مضربة وأن يكون الجسد هادئاً تماماً يتسم بالثبات وعدم حركيته وبالتالي يضمن نوعية الانتباه وشفافية الروح لما سيقال من أجل أن تتزوَّد إلى أقصى حد بقيم دلالية من حركات الخطيب، وحركات من يريد الإقناع، والذي يريد أن يشكل لغة محددة جداً. إن النصائح التي أتى عليها الفيلسوف فوكو في مسألة الاستماع قيّمة جداً ولصالح متلقي يغلب عليه حدّة الطباع وسرعة الانفعال والتعجل في فهم الأمور وترك التريث والتثبت. إذاً عندما تسمع أحدهم يقول شيئاً مهماً، فلا يجب أن تجادل في الحال، وإنما حاول أن تستجمع فكرك، وأن تحتفظ بصمتك حتى تستطيع أن تنحت جيداً ما سمعته، وأن تقوم بامتحان واختبار سريع بنفسك للدرس الذي استمعت إليه وإلى المحادثة والمناقشة التي أجريتها. قم بإطلالة سريعة دائراً حول نفسك حتى تعرف أين أنت، وإذا كان ما سمعته يشكِّل علاقة جديدة بالتحضير والاستعداد والتجهيز الذي تملكه سلفاً، فعندئذ تكون متمكناً من الفهم ومن الاستيعاب ومن الاستماع المنتج والمثمر. فقد انتهى العلم إلى أن الاستماع هو الأكثر سلبية بجميع المعاني، وأن الجسم نفسه، والفرد الفيزيائي يمكن أن يفاجأ، وأن يتزعزع لما يسمعه أكثر من أي موضوع قد يكون حاضراً أمام بصره أو بجانبه. إننا لا نستطيع أن نوقف ضجيجاً عنيفاً ومباغتاً. إن هناك سلبية للجسد في حالة الاستماع مقارنة بالنظر أو بأي حاسة أخرى. إن الاستماع قادر أكثر من غيره على أن يستدرج الروح، وأن يسحر الروح/ النفس أكثر من غيرها سواء بتأثير من كلام الإطراء والخطابة، وذلك لأننا أكثر حساسية بالفعل أيضاً لبعض المؤثرات - قد تكون في بعض الحالات إيجابية ولكن في بعضها الآخر سلبية- كالموسيقى.
والسؤال كيف تكون الموسيقى مؤثراً سلبياً كمحصلة أو نتيجة للاستماع؟!