د.فوزية أبو خالد
في هذه اللحظة الفارهة التي تجترح فيها الثقافة عبر النادي الأدبي في جدة مشكورًا تكريم قامة وقلم من مؤسسي النقد العلمي في الأدب السعودي ومن مؤسسي النقد المعرفي في الثقافة السعودية، تموج أمامي أطياف لا متناهية من صور د. عبدالله الغذامي على مختلف جبهات الحياة وليس في المجال الثقافي فقط.
فتصير مهمة القلب والعقل والمتابع لمسيرته الإبداعية والحياتية مثلي نوع صعب المنال من علم النجوم وعلم جغرافيا الوطن.
أسأل الحضور حقًا، أسألكم لنفكر معًا عن أي من تلك الأقمار والشموس التي اسمها عبدالله الغذامي أكتب؟. وأي من أولئك الرجال من عبدالله الغذامي أكاتب؟!.
فعبدالله الغذامي ككل علاَمة العصور المتأرجحة بما تتسم به من غموض والتباس يجمع بين عدد من الأضداد في جدلها وفي تحولها النوعي من جمود إلى حركة ومن ظلمة إلى نور ومن ضيق «الأنساق» بتعبيره الأكاديمي إلى سعة الحرية. كما أنه يعاني من الكبوات المريعة لتلك التحولات في اتجاهات معاكسة وكأنها لن تقوم مرة ثانية لولا موهبة المغامرة التي تجري في دمه وتجعله قادرًا على لمس ريشة من طائر الرعد أنى بلغ طوفان الرماد. واستطيع أن أشير بثقة مفرطة إلى أن أشواك مسيرته في بعدها الذاتي والثقافي كانت دائمًا مشغولة في كل لحظة من لحظات حياته بحرير الأضداد وجروحها، بكل ما في همسها من خرير وبكل مال صخبها من صليل.
عبدالله الغذامي سيد في الأضداد
كان عبدالله الغذامي ولا يزال مشتعلاً ومشتغلاً بتفكيك النقائض وباكتشاف جدلها سواء في عمله الأكاديمي الصارم أو في مشاغباته الطائشة. إِذ نضع أيدينا على ذلك في نقده القاسي كالخطيئة والتكفير ومتوالياتها البنيوية من أعماله النقدية الأخرى، وفي كلماته الرقيقة كتلك التي كتبها عن المرأة الجهنية الجليلة الماجدة والدته قبل وبعد رحيلها. وكذلك نجد تلك الملامح المنحوتة من صخر وديم في كتاباته المجدولة من الجبروت والحنان، مثل كتابته النقدية عن قصيدتي حسناء، ومثل رسائل الجوال والإيميلات الشخصية التي أرسلها لي مغموسة بحب الجهنية وبحب غادة ورحاب الغذامية وبقية الباقة إبان مواجهاتي الشرسة مع أعداء الجسد السليم والقلب والعقل السليم.
تخصص عبدالله الغذامي في اللغة العربية لكنه لم يكتف في العلاقة معها بطاعة الموالي الأعمى لها المنقطع عمّا سواها، بل تعامل معها بشغف العاشق الذي جمع بين عاطفة الأخذ وبين عاطفة العطاء، بين حس التساؤل وبين شعور الانتماء.
كتب عبدالله الغذامي في النقد الأدبي الحديث ولكنه ما لبث أن انتفض مثل رولان بارت وفوكو ودريديا ولاكان الذين خرجوا من عباءة الحداثة إلى فضاءات ما بعد الحداثة في التنظير الأدبي والثقافي عندما ضاقت العبارة على المعنى وعندما صار النص لا يخرج فقط على سلطة الكاتب، بل يتعداها ليصبح عصيًا على كل أشكال سلطة التأويل الأحادية والمركزية.
عبدالله الغذامي بين برزخ النخل ومعدن الصحراء
عبدالله الغذامي ذلك الرجل الطبيعي بخضار بشرته الصحراوي وكأنه مثل أبي نسيج طبق الأصل لمن ولدوا من تواشج لون النخيل الوشمي وكهرمان رمال النفود والدهناء. عبدالله الغذامي ذلك العصامي الذي خرج من برزخ الظمأ والماء.
عبدالله الغذامي بلهجته العنيزاوية النجدية المطعمة بنكهة الحجاز، المفصحة بما في اللغة العربية من إعجاز يتصل وينفصل في علاقاته بقامات النقد العربي التراثية والمعاصرة معًا من الجمحي وبن قتيبة والجاحظ والآمدي والجرجاني وقدامة بن جعفر إلى المازني والرافعي والعقاد وخليل حاوي وإحسان عباس وشكري عياد وسلمى الجيوسي وخالدة السعيد ويمنى عيد وسعد البازعي، بنفس الطلاقة والانفتاح والمنافحات الحميمة والمشاحنات المنتجة.
عبدالله الغذامي ذلك الظمآن القادر على كسر الحوض وتلك الصمان الجوفية القادرة على سقيا فلوات اللغة والنقد والثقافة. لم يشغله مشروعه الأكاديمي المهني في النقد الأدبي عن رؤية التعالق بينه وبين النقد الثقافي والسياسي والنسوي. فصار بتقدم العمر في التجريب وبتجدد الشباب في الرؤية والأدوات يُدخل على مجتمع غارق في مشروعاته الصغيرة من الأدبي إلى التجاري ومن السياسي إلى الديني، روح النحت الجامحة في التفكير النقدي كمشروع حياة.
عبدالله الغذامي معلم الشفافية ورمز الأخلاق
كتبت له مرة في لحظات استحكام مد الصحوة على الأجنحة رسالة حانقة على تجنبه تناول تجربتي الشعرية لا بخير ولا بشر، وطفقت ألومه على انشغاله عن تجارب الشباب وتجنبه القيام بقراءة نقدية لأي من تجارب قصيدة النثر مما كان في تقديري وقتها سببًا إضافيًا لاستفراد القوى الظالمة بإنتاجهم وبهم وحدهم. وقد أرسلت تلك الرسالة مع نسيبة صديقتي أم إسراء وزوجة أحد أساتذتي بأمريكا وكان قد أصبح جاري بسكن الجامعة، وهو الأستاذ الدكتور نذير العظمة. وجعلتُ بتحرق انتظر الجواب. فبالرغم من أنني كنت أراهما - الغذامي والعظمة يتريضان معًا بباحة سكن جامعة الملك سعود بالدرعية يوميًا، حيث كنت أنزل للعب بملاعب ستة مع أطفالي فإنه لم يكن لنا في حمى تلك البراري الملتهبة أن نقف لنتكلم ولو على رؤوس الأشهاد. غير أن انتظاري لم يطل وجاءني مع نسيبة أيضًا الجواب وقد عنون الغذامي رسالته الجوابية لي بعنوان رحب الصدر واسع الأفق يقول: «أهلاً بالغضب الساطع». وفيها لم يتورع ذلك الرجل بروح المعلم الحليم عن الصراحة معي بالقول، «أن الذائقة النقدية مثلها مثل قوى أخرى بالمجتمع تعاني أحيانًا من إعاقاتها في التعامل مع غير المعهود من تجارب الشباب الشعرية والأدبية الجديدة عمومًا ومن التجارب الجديدة جذريًا كقصيدة النثر. ثم أردف في نفس الرسالة بالقول، ولكن الشفاء من إعاقات التمتع بكافة الأشكال الشعرية، مع إرادة الاستبصار ليس مستحيلاً ولا عنقاء بل إنه واجب الوفاء بالتزامات الناقد الأخلاقية والأدبية تجاه تجارب الشباب وتجاه مبادرات التجديد».
عبدالله الغذامي حليف المستقبل وصديق الأجيال
عبدالله الغذامي بسيط بساطة رغيف البر معقد تعقيد الوطن في مقاومة أنواع لا تحصى من التحديات الثقافية والحياتية بما فيها تجربة مقاومة السرطان التي مر بها وهزمها بإذن الله إلى الأبد في ورع وسلام. وهو في كل الحالات لا يشبه إلا غد يتشكل من عناصر الأحلام.
لقد كان عبدالله الغذامي ولا يزال وسيستمر ما دام حيًا ذلك الإنسان المتعدد القادر على ألا يفقد الطفل البريء الذي طالما لعب بالرمل في القصيم وراكض الموج على شاطئ أبحر وتسلق الصخور الردف بالطائف، وألا يفرط في حماس ذلك الشاب المتأجج الذي جمع بين ثقافة القديم والحديث، بين حكمة المتنبي وبين النظر بفتنة للأمام مثل الكاتب البريطاني جون أوزبن، مع المحافظة على يقين الأستاذ وشك الطالب.
فكان د. عبدالله الغذامي كأنه ولد وترعرع وسيبقى معلمًا ونبراسًا. فهو المفرد والجمع، الأصالة والحداثة، المحافظة والتحرر، الشعر والنثر، الماء والنار، الوفاق والجدل، التعدد والوحدة، الريبة والثبات، المستقر والتغير. وفي هذا يصح أن نقول إن عبدالله الغذامي في كل تجربة من تجاربه المعرفية وتجارب محياه الحر أمد الله في عمره كان وسيبقى رمزًا للمثقف العضوي والمثقف المتعدد.. ذلك المثقف الذي لا يكفيه عمر واحد فيعيش عبر القراءة والكتابة أكثر من حياة دفعة وهو يفعل ذلك بروح سامقة سامقة سامقة وبحبر يقطر بلهفة حب جديد وفكر مجدد وبتفاعل لا ينقطع مع تموج الأجيال.
في بيت الغذامي
بعد عودة د. عبدالله الغذامي منتصرًا بحول الله من رحلته العلاجية إلى أرض الوطن ذهبت للقائه لأول مرة وجهًا لوجه، باستثناء تلك البرهة الغائمة في عزاء والدتي الشريفة نور رحمها الله.
كان في استقبالي بباب بيت د. عبدالله سيدة الدار المشرقة تلك الشمس التي اسمها فوزية الحميدي مع سرب آسر من الصبايا غادة وأخواتها رحاب وأبرار وديما وبشائر... مرق الوقت الساعة بدقيقة وأنا أتعرف على د. عبدالله ليس من كتابته كما اعتدت بل أتعرف عليه أيضًا بالمعيشة من خلال شريكة حياته وحبات قلبه وفكره بناته.. كان د. عبدالله مزهوًا بفوزيته فخورًا ببناته عرفني بوله على كل منهن.. وعلى مشروعاتهن الثقافية ومنها تلك الرسوم الجميلة التي خطتها ريشة ابنته رحاب.. كل منهن انسابت كلماتها عنه وفي جوده بعفوية كصديق حميم.. وفيهن الأستاذة الجامعية والفنانة التشكيلية والأم والطالبة والولهى بالعلم والمتعلقة بالأدب.. بنات من هدوء وثقة وشغف..
جلسنا على بساط أحمدي نتبادل أحاديث غاية في الألفة والتدفق وكأننا جيران وأهل لسنين بيننا تمر وخبز وكليجة وملح وأحلام، بل إن ذلك الانسجام انتقل كعدوى عشقية بين حفيدي عبدالله وحفيده عبدالله اللذين حظيا بحصة الأسد من اهتمام وملاعبات د. عبدالله بلا ملل ولا ضجر من مشاغبتهما لنا طوال مدة اللقاء.
خرجت من البيت الدافىء الأنيق المزنر بمكتبة د.الغذامي العامرة بتساؤل طالما أتعب طلاب العلم وعشاقه مثلي كيف يستطيع الإنسان أن يكون مثقفًا كتابة وحياة وقد تجسَّدت في ذلك اللقاء القصير أمامي إجابة السؤال.
** **
- شاعرة وكاتبة وأكاديمية