د. حسن بن فهد الهويمل
التخصص هو الدراسة الأكاديمية، التي يؤديها الدارس على مختلف المستويات، ليحصل من خلالها على عمل رسمي يمارسه.
(العصر الحديث) فرض هذا المنهج، وحدد معلوماته، وتطبيقاته. وبخاصة في الحقول العلمية البحتة. وهو اتجاه يرتبط باستفحال ظاهرة الإنسان الآلي.
لم يعد الإنسان إنساناً بمشاعره، وغرائزه، وشهواته، ونوازعه، وممارساته. لقد فقد الكثير من مهماته الإنسانية، واستبدت الآلة بكثير من مهماته.
الآلة فرضت نفسها، وسيطرت عليه، وعطّلت الكثير من مواهبه، ومهاراته.
لكن الثقافة، أو ما نسميها بـ(النسق الثقافي) فرض نفسه هو الآخر، وأسهم في صرف الكثير من المتخصصين إلى هواياتهم المكبوتة.
الدراسة الأكاديمية لم تعد بالضرورة متوافقة مع مواهب الإنسان، وميوله. فالطالب قد لا يتوفر له التخصص الذي يميل إليه، ويوافق هواه.
إذ هناك نِسَبٌ، وإمكانيات، قد تحرم الطالب من رغباته، وتوجهه. حيث تريد، لا حيث يريد هو.
ومن ثم لا يجد بداً من القبول بالتوجيه الإكراهي، بحيث يكمل دراسته، وقد يحصل على شهادة (الدكتوراه)، ثم يجد نفسه فجأة وقد ترك ذلك كله، وانصرف إلى ما تهواه نفسه. غير عابئ بالجهد، والوقت، والمال الذي أهدره.
المشهد الثقافي، والعملي مليء بهذا الصنف من المتخصصين الذين ضحوا بكل ما بذلوه من جُهد، ومال، ووقت، وألقوا بشهاداتهم عُرْضَ الحائط، ومالوا، حيث تميل شهواتهم، ورغباتهم.
(أنيس منصور ت2011م) -على سبيل المثال- كان متخصصاً في الفلسفة، ومن ألمع أساتذتها في الجامعات المصرية، ترك ذلك كله، وانصرف للصحافة، وعُرِف صحفياً، ولم يعرف فيلسوفاً.
ومن قبله (إبراهيم عبد القادر المازني ت 1949م) كان أديباً، ومترجماً، تركهما وذهب إلى الصحافة.
ومن بعد أولئك عشرات الأطباء، والمهندسين، لم يُعْرفوا بتخصصاتهم، وإنما عرفوا بثقافتهم، وممارسة هواياتهم.
(أحمد زكي أبو شادي)، (إبراهيم ناجي)، (يوسف زيدان)، (علاء الأسواني) كل أولئك اشتهروا بهواياتهم، وميولهم الثقافية، ولم يشتهروا بتخصصاتهم.
بل نجد من شكل مذهباً، أو تياراً فكرياً، لا يمت إلى تخصصه بصله، وأحدث بممارسته لهوايته منعطفاً خطيراً، ومثيراً في المشهد الفكري، والسياسي، والديني. نجد ذلك عند المهندس (محمد شحرور ت2020م).
وعلى المستوى المحلي نجد عدداً من ذوي التخصصات العلمية، تركوها، ومالوا حيث تميل أهواؤهم.
فعلى سبيل المثال الدكتور (عبدالله مناع) - حفظه الله- طبيب أسنان سعودي لم يمارس مهنته، بل انصرف للعمل الأدبي، والإعلامي، وأصبح من أبرز الكتاب، وغيره العشرات.
ما أتمناه من المؤرِّخين، والدارسين لهذا الصنف من هذه الظواهر، تعقب هذه الفئات، وجمع المعلومات عنها. وإبراز لحظات الانفلات من حدود التخصص.
ففي ذلك متعة، ورؤية تربوية، لو أخذ بها التربويون لما أهدرت مواهب، وأضيعت قدرات.
التعليم غالباً ما يَجْني على الكفاءات، ويهدر الطاقات، ويكلِّف الأنفس فوق وسعها، والله الرحمن الرحيم: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}. ولا يكره أحداً: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}.
لو أن التعليم اكتشف المواهب، والميول، وأصبح لكل طالب ملف يرصد قدراته، وهواياته، ثم يعمل المختصون على توجيهه الوجهة المناسبة له، لما أهدرت الطاقات، ولما كبتت المواهب.
إذ كم من موهبة وئدت، وكم من هواية كبتت، وكم من طالب يمتلك مهارات، وقدرات عطلت: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَت}.
ترى قاضياً شرعياً لا يحمل سمة القضاء، ولا يتمثَّل أدبياته، وليست لديه إمكانياته، لمجرد أنه طاف بملفه على كل التخصصات النظرية: الأدبية، والتاريخية، والاجتماعية، والشرعية، فلم يجد قبولاً إلا في كلية الشريعة، وحين تخرج بامتياز، توجه للقضاء، وهو ليس من أهله. وقس على ذلك.
إنه إهدار متعمد للجهود، والأموال، والأوقات. ومن نواقض التعليم ظهور مبدأ (العرض، والطلب)، والإبقاء على الأقسام التي يتطلبها سوق العمل، وإغلاق التخصصات التي لا يحتاج إليها، وكأن التعليم صناعة للأداء، وليس للتعليم.
التعليم أصبح إشكالية عالمية، فلسنا وحدنا من يعاني من تراجعاته، وضعف مخرجاته.
لقد مارست التعليم (40 سنة) في الجامعة، ومرت بي دفعات بالمئات، ولا أجد غضاضة حين أقول: في كل عام تصل إلى في مرحلة (البكالوريوس) أضعف من سلفها.
حتى أصبحنا أمام دفعات تبحث عن الملخصات، وعن النجاح، ولا تهتم بالكسب المعرفي، وحين يتخرَّج الطالب بورقة تكاد تكون مزوَّرة، يجلس في بيته سنوات، ليجد عملاً لا يرتبط بتخصصه.
وحين تكون لديه مواهب، أو ميول، يبدأ من جديد في تهيئة نفسه، لاستكمال الثقافة المناسبة، وممارسة ذلك، وتغليبه على تخصصه، وحين تتحقق له البراعة، يطوي سني الدراسة، وما معها من وثائق، ويرمي بها في الأدراج.
أخطاء تربوية، من السهل تلافيها. دعونا نكتشف المواهب، والميول، ورغبات الطلبة في المرحلة الابتدائية، ومن ثم نسعى لتحقيق تلك الرغبات في مجال التخصصات.
القاضي حين يوافق تخصصه هواه يبرع في عمله، ويكون قد حقق بالصدفة ميوله. والمعلم حين يتميز، يكون بالصدفة قد ظفر بهوايته. وقل مثل ذلك بحق الطبيب، والمهندس، وغيرهم.
الجامعات تصنع الكتبة، ليس إلا، وتمنح شهادات العبور. أما البراعة، والعلم، والثقافة فتصنعها المواهب، والهوايات.
لا نريد احتمال الإخفاقات، ومعايشة صُنَّاعه، نريد أن نواجه مصائرنا بالثقة، والعزم.
التعليم بحاجة إلى عزم، وحزم. لسنا وحدنا من يعاني تلك الإخفاقات، كل دول العالم يعانون من تردي مستوى الطالب، وضعف المخرجات.
والحازم من أخذ بزمام المبادرة، وبدأ الإصلاح من مرحلة الروضة، والابتدائي.