عبد الله باخشوين
موجة الصقيع (الشمالية) المحتملة.. ذكرتني بأبي.. فقد روى لي (حكاية) دارت أحداثها في (تبوك).. بعد أن أسس الجيش السعودي قاعدة عسكرية هناك.. وعلى أثرها كثرت رحلات (سلاح النقليات) لنقل أسلحة ومعدات.. يقول: كنا نسكن مع (جنود الميدان) في أحد (الفصائل) المخصصة لإقامتهم.. وفي تلك الرحلة -التي تمتد ما يقرب من الشهر- بين الذهاب والعودة -حسب ثقل حمولة الشاحنات- وفي تلك الرحلة (هجمت علينا) موجة صقيع تجمدت خلالها مياه الشرب والوضوء، وأصبح الحال في المعسكر شديد الصعوبة من شدة البرد.. وكنا نتعاطف أو نشفق على (جنود الميدان) الذين هم ملزمون بالقيام بواجبات (الحراسة) للبوابات وبعض المواقع في (مناوبات) وفق جدول معروف لديهم لمدة (ساعتين) ليلاً ونهاراً.. وفي ذلك (الجو) يكون أصعبها التي تكون آخر الليل - وطبعًا - هي واجبات عسكرية لا يمكن إلغاؤها أو الاعتذار عنها.. وهي تنفيذ لـ (أوامر) عصيانها أو التقاعس عن تنفيذها تتبعة عقوبات شديدة الصرامة لا قِبل لأي جندي بتحمل تبعاتها.
أما في ذلك المساء فقد تأكد أحد (الجنود) من عدم قدرته على تحمل (الصقيع) وقرر أن يجد لنفسة سبباً مرضياً يحول دونه والخروج لـ(الخفارة).. وبعد منتصف الليل بقليل.. دخل (العريف المناوب).. و..
صرخ بحزم: (فلان الفلاني.. اقحص يالله خفارة).. فما كان من الجندي إلا أن أخرج رأسه من تحت كومة (الأغطية) وقال: (مريض).. وأمام حزم (العريف) والتهديد بعقوبة (العصيان) التي قد تصل قسوة عقابها إلى (الفصل من الخدمة) بعد تنفيذ العقاب (طبعاً).. جلس الجندي على الفراش وسحب من تحت وسادته مسدساً.. وأطلق على (ربلة ساقة) رصاصة وقال: (ها صدقت أني مريض ولا.. لا)..؟!
لم أسال أبي عن بقية التفاصيل.. أو أنني سمعتها ونسيتها.. لكنني أذكر أنه حدثني عن تفاصيل وقال شارحاً.. الجندي أخطأ وأطلق رصاصته على (عضلة الساق) وأتلفها.. كان خائفاً أن يصيب (عظمة الساق) ويكسرها ولم يعرف أن بين العظم والعضلة منطقة شبة خفية هي التي تصلح لاختراقها للخروج بأقل ضرر ممكن.. لكن بعد علاجه في المستشفى تسبب لنفسه بحالة (عرج دائم) وتم فصله من الخدمة.
أخذنا نضحك.. بعد أن علقت قائلاً: (الرجال مسكين بردان.. مهو جزار زي عم ثابت).. وواصلنا الضحك.. بعد أن قلت: (والله أنا كنت أنتبه لعم ثابت لما يطلع لحمة (مفرومة) مدري كيف يشفي اللحم من العظم.. وما يخلي فيه ولا فتفوتة).
طبعاً.. ذكرتني هذه الحكاية بجنودنا البواسل في كل أماكن تواجدهم.. وفي واجباتهم التي يؤدونها بأمانة وإخلاص.. وذات مرة خرجت بصحبة ابنتي (توتا) في زحام السير قرب (الكورنيش) وكان رجال المرور منتشرين ينظمون (الحركة) عندما اقتربنا من أحدهم.. قال: (وقف يا بابا).!! أدخلت يدها في حقيبتها وأخرجت قطعة (شوكلاتة).. قدمتها له وقالت: (كل سنة وانت طيب).. فارتسمت على شفتية ابتسامة شكر عريضة.