م. بدر بن ناصر الحمدان
لطالما استرعتني الأحياء اليهودية في بُعدها العمراني، وجذبتني للقراءة عنها والبحث في تاريخها المثقل بالأحداث، لذا أجدني منجذباً لزيارتها أينما وجدت أكثر من أي مكان آخر، التجول في أروقتها بحد ذاته تجربة ثرية خاصة إذا ما كانت المعلومة حاضرة بتفاصيلها قبل الدخول إلى هذه الأماكن المشبعة بالإثارة والجدل، رغم أن كثيراً منها تخلَّت عن هويتها اليهودية وتحوَّلت إلى وجهات سياحية على مستوى المدن التي توجد على أراضيها في أنحاء متفرِّقة من العالم.
الغيتو، أو المَعزل أو ما يُسمى أحياناً بالحي الرابع هو ذلك النموذج المكاني الذي يعيش فيه مجموعة من السكان بشكل عام واقترن بالأحياء اليهودية بشكل خاص، وعادة ما ينظر إليها في كثير من الأحيان كأماكن أحادية لطائفة أو ثقافة معينة أو طبقة فقيرة من السكان، لها مداخلها ومخارجها وأوقاتها المحددة للدخول والخروج ومحاطة بالسياج والأسوار ونظم المراقبة التي جعلت منها ثكنة عمرانية.
وفي الغالب كان الهدف من هذه النسخة العمرانية هي صناعة حيز خاص يُمكّن قاطنيه من حماية أنفسهم والمحافظة على هويتهم ونسيجهم الاجتماعي، وحرية ممارسة شعائرهم الدينية، وتبني فكر الأقليات، وعلى الرغم من هذا الاختيار الطوعي لأحد أشكال الانعزالية الاختيارية لليهود على سبيل المثال، إلا أنه على الجانب الآخر كان هناك تجارب قسرية حولّت الغيتو إلى سجن كبير، بهدف تجريد هؤلاء السكان من حقوقهم، وإقصائهم عن المحيط العمراني والمعنوي، وعزلهم عن جسد تلك المُدن.
الأحياء المنعزلة سواء طوعاً أم كرهاً تساهم في انهيار الأسس الاجتماعية والاقتصادية لأي مجتمع، وتتحول عبر الزمن إلى بؤرة فاسدة ومعقدة ومصدر للقضاء على الوجدان الإنساني، وإنهاك للمقدرات المعنوية والأخلاقية، والانكفاء على الداخل، مهما بدت ذات كفاءة عمرانية جيدة إلا أنها في النهاية ضد فطرة المدن المبنية على الاندماج والتكامل.
مثل ما قدم تاريخ المدن تجارب مشرقة في بناء بيئة الإنسان، كان له «جانب مظلم» في تدمير القيم الإنسانية، وما نموذج الغيتو إلا واحد من العديد من التجارب السوداء التي حملتها عربة التاريخ عن تخطيط المدن بشكل أو بآخر.
لست هنا بصدد التعرض لتجربة الغيتو بشكل خاص، بقدر ما أجدها من الأمثلة التي تبرهن على أن إدارة المدن سلاح ذو حدين، وتعد من أخطر الأدوات التي يمكن توظيفها من أجل التحكم بالإنسان ونمط عيشه، فهي تتطلب مستوى عالياً من الأمانة والأخلاق والمبادئ والمُثل العليا، تلك القادرة على الاعتناء بالمجتمع وأمنه وتهذيب سلوكياته وضمان حقوقه وتمكينه من ممارسة حياة كريمة، والأهم من ذلك كله تمكين أفراده من التعايش المشترك دون حواجز أو قيود.