إيمان الدبيَّان
عندما يُبْحر بنا خيالنا، وتُجَدِّف بنا مَجاديف ذاكرتنا نتجاوز شواطئ واقعٍ دَفَعَنَا بسبب كلمة، أو موقف إلى هذا فنتخطّى الأزمنة ونعبر الأمكنة، وقد أبحرت في بعض أبيات لعنترة منها:
لَهُ حاجِبٌ كَالنونِ فَوقَ جُفونِهِ
وَثَغرٌ كَزَهرِ الأُقحُوانِ مُفَلَّجُ
وأخرى لأبي تمام:
هيَ البدرُ يغنيها توددُ وجهها
إلى كُل مَنْ لاقَتْ وإنْ لَمْ تَوَدَّدِ
كل ذلك، وأكثر، وأنا في إحدى عيادات التجميل التي ذهبت إليها قبل أسبوع أبحث عن علاج لحرق شاهي بسيط؛ ولكنِّي رأيته عظيماً بسبب ملامسته لي، ووجدتها فرصة سانحة بأن أحصل على إجابة مباشرة تروي فضولي عن تجميل وحقن الوجه التي أُولِع بها النساء، ولا أفقهها، ولا أؤمن بها، ولا أعرف أبداً لها سبيلاً فكانت الإجابة صادمة كصدمة سيارة مسرعة في حائط عالٍ حَطّمت وجه قائدها، فاحتاج ما قاله لي هذا الطبيب العربي من عملية جراحية لشدِّ الحواجب، وعملية أخرى لكسر الذقن وتعبئته، ونفخٍ للوجنتين، وخيوطٍ من الذهب بدل لبسها العنق تذويبها الجبين، شعرت حينها بأني قائد السيارة المهشم وجهه مع أني أجيد القيادة بفن وبراعة، وما كان عليَّ إلا أنْ أَحملَ حقيبتي، وأفتح هاتفي أحجز موعداً جديداً مع طبيب سعودي مشهور صَعُب تواجده في مدينتي فاضطررت لانتظار قدومه، والذهاب إليه بعد أسبوع من زيارة الطبيب السابق، فكان أول أسئلته لي بلهجتنا النَّجْديّة (الشاهي غصب وإلا رفالة) فأجبته بنَجدِّية أعمق (رفالة وطفاقة)، وسألته سؤالي الذي طرحته على الطبيب العربي عن التجميل والحقن وأجابني بإجابات أشعرتني بأني في الثامنة عشر من العمر ولست بحاجة لأي شيء من التجميل مما ذُكر، وأكَّدت لي كما أكَّد هو بأن ما قاله الطبيب السابق، وما يفعله ويقوله بعض أطباء التجميل ليس إلا استنزاف مادي لبعض السيدات، وفي الفترة الأخيرة بعض الرجال فليس كل ما فعله هذا البعض صحيحاً وليس كل ما عبثت به بعض النساء بوجوههن جميلاً، وردّدَ لِيْ كما يُردد للجميع نصيحته الشهيرة القديمة الجديدة بالابتعاد عن المستحضرات، والكريمات التي تكلف المرأة، أو الزوج، أو الأب مبالغ كبيرة بلا فائدة تذكر إلا للشركات والقليل من الأطباء المستهترين بحال الناس.
هنا عرفت وأدركت سبب تكرر بعض النسخ النسائية فأصبحت كل واحدة صورة طبق الأصل من الأخرى في أنفها الذي بالكاد تتنفس منه، أو بشفتيها التي أوشكت أن تلتصق بذقنها، أو بوجنتيها التي أخشى أن تنفجر عندما يقبلها أبنائها، وحتى في ملابسها، وزينتها التي تلبس ليس ذوقاً، أو مُلائمةً، وإنما لأنها تحمل اسماً عالمياً معيناً بأسعار خيالية فأصبحت يَدَا فُلانة مدججة بأساور تماماً مثل يَدَي علانة، وحذاء أم فلان -أكرمكم الله- هو نفس حذاء أم علان لولا اختلاف المقاسات أحيانا، وحقيبة حرم صاحب المنصب المشهور كأنها هي حقيبة حرم المسكين المغمور؛ ولكن إحداهما أصلية والأخرى علامة وهمية، هكذا تشابهت بعض النساء جسداً، ووجها بسبب استغلال بعض الأطباء لحاجة المرأة للتجميل والتجمل فكون من وراءها ثروة هائلة، وقضى بسبب جهلها على أنوثة قد تكون باهرة، وهكذا استفادت بعض المتاجر فروّجَت، ونشرت، وربحت من وراء سيدات اعتقدن أنهن تميزن عندما بالعلامات التجارية تشابهن.
شكرت طبيبي السعودي، وأخذت وصفته المختومة بتوقيعه الذي لولا أن يُحسب أني أسطر اسمه لشهرة هو مشهور بدونها لذكرته صراحة، واستحقاقاً للحق، وصفة ليس فيها سوى مرهم واحد أخبرني أن الوقت سيعالج ما أريد بشكل أفضل منه وركبت سيارتي في أجواء غائمة نحو أمواج البحر الهائجة ومعي كوبٌ من الشاهي الذي تصالحت معه مستمتعة بكلمات الشاعر الأمير خالد الفيصل:
(الندى في وجنتك
صار عطر بلمستك
والهوى غنى طرب
تستثيره بسمتك
كلمّا ضمّت عيوني منك طيف
يا بعد كل الطيوف
قلت ما مثلك على الدنيا وصيف
لا حشا مالك وصوف
لا سحاب ولا مطر
لا نسيم ولا زهر
لا طيور ولا غزل
ولا مع باقي البشر)
مجددة إيماني بأن المرأة تتميز بأنوثتها وجمالها المتفرد وإن كان بسيطا وليس بتشابهها.، نعم لكل عمليات وحقن التجميل عند الضرورة والحاجة، وليس للمجاراة بلا مَلاحة مع الحرص أن يكون ذلك عند الأطباء البارعين المخلصين وليس لدى بعض المتسلقين.