د. خالد عبدالله الخميس
في ظل تزايد الإصابة بمرض كورونا وتزايد درجات التخويف والإرجاف من المرض؛ يتوقع المراقبون أن تتزايد بعض الاضطرابات النفسية بين العاملين في المستشفيات، ففي محاضرة للدكتور مشعل العقيل استشاري الطب النفسي أشار إلى أن العاملين في القطاع الصحي يمّرون ببعض الضغوط النفسية في حال انتشار الأمراض الوبائية، ففي تايوان مثلاً ومع موجة مرض سارس أصيب نسبة من العاملين في القطاع الصحي ببعض الاضطرابات النفسية المتعلقة بالضغوط مثل قلق ما بعد الصدمة PTSD والاكتئاب وبعض اضطرابات القلق نتيجة زيادة مخاوف الإصابة بالمرض، وكذا الأمر في السعودية ترافقت اضطرابات نفسية بين العاملين في القطاع الصحي مع مرض كورونا السابق.
إن ما يعمله الإعلام الآن يتعدى مرحلة التوعية بالمرض والوقاية منه إلى مرحلة الإرجاف النفسي.
إن علو صوت الصخب الإعلامي المشعل لنيران معركة «كورونا» لا يسمح بأي صوت يهديء الصخب، لكن ما إن ينتهي وطيس المعركة وينحسر المرض إلا ويبدأ من كان يشعل فتيلها ينتقد أسلوب من أشعلوها.
لقد بلغت حدّة الصوت الإعلامي بالتخويف من المرض لحد أننا يوميًا نعمل على تحديث معلوماتنا عن أعدد المصابين ومدن وجودهم في العالم، حتى إن بعض دول العالم لم نسمع بها إلا من خلال مناسبة «كورونا». أن المسألة بحق تعدت من هدف التوعية بالمرض إلى أهداف مبهمة وخفية.
إن الإعلام كما يخبرنا في كل ساعة بالإحصائية الجديدة لمرض كورونا، فإنه يتعامى عن إحصاء من اضطربوا نفسيًا بسبب رفع وتيرة المخاوف من «كورونا»، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل ستوافينا الإحصاءات بعد انسدال الستار على «كورونا» بنسبة إعداد من اضطربوا نفسيًا بسبب التخويف من المرض إلى أعداد من أصيبوا به.
ولعلي هنا أن أذكر بحادثة حرب فوكلاند التي وقعت بين بريطانيا والأرجنتين عام 1982 حيث خلّفت تلك الحرب 500 قتيل، إلا أن الخبر الذي لم ينتشر هو أن هنالك أعدادًا من الجنود أصيبوا باضطراب قلق ما بعد الصدمة PTSD، والأدهى من ذلك كله أن هنالك 500 جندي انتحروا بسبب عجزهم عن التخلص من كوابيس PTSD، والمعنى أن من قُتلو في الحرب يماثل أعداد من انتحروا جراء الإصابات النفسية، وأن من خرجوا سالمين من الحرب تمنوا له أنهم ماتوا فيها بعدما انكوو بنيران PTSD. ويذكرني هذا بالمثل القائل (رمح تطعن به، ولا رمح تخوف به) يعني أن يتم طعنك بالرمح أهديء للنفس من أن تقوم كل صباح وأنت مرعوب من شخص يهم بطعنك.
وهناك موضوع آخر لم يسلط عليه الإعلام وهو عن تأثير المخاوف المبالغ فيها باضطراب الجهاز المناعي؛ يقول علماء المناعة: إن تضخيم المخاوف المصاحبة للإصابة بأي مرض تعمل على تدهور الجهاز المناعي بشكل صارخ لتصبح أجسامنا منهزمة ومسلمة لانتشار المرض. وعليه، فإن بعض الوفيات التي تحصل نتيجة الإصابة بمرض كورونا لا يكون مسببها فقط تأثير الفيروس في الجسم وإنما لانهيار الجهاز المناعي نتيجة لمخزون الرعب الذي زُرع في نفسية المريض. إِذ القاعدة التي يُجمع عليها اختصاصيو المناعة أنه كلما زادت مخاوف المريض من المرض زاد تدهوره الصحي واستشرى المرض في جسده. بكلمة، هناك من يموت بـ»كورونا» وهناك من يموت من الخوف من «كورونا».
ولا تستغرب أنه في ظل «إرهاب كورونا» أن يكون الخوف من الإصابة بمرض كورونا أكثر من الخوف من الإصابة بأي مرض خطير بما فيها السرطان.
من جانب آخر، لعلنا ننتقل لموضوع آخر ذي علاقة، ونسلط بعض الضوء على اضطراب نفسي آخر يتعزز من خلال المبالغة في النظافة والحذر الزائد من العدوى، ذلكم هو الوسواس القهري.
إن ما تجده اليوم من توعية مكثفة للنظافة وانتشار الكمامات والمطهرات قد يكون مؤشرًا صحيًا للوقاية من «كورونا»، لكن ثمة جانبًا آخر ينبغي عدم إغفاله وهو خطورة تحول الاهتمام بالنظافة إلى هاجس من المخاوف القهرية وقابلية البعض لأن يصبح موضوع النظافة هاجسًا يؤرق باله في جميع لحظاته، عندها ستسير الأمور بشكل لا يقل خطورة عن مرض كورونا.
إن مبالغتنا في إرشاد الآخرين وتحذيرهم الدائم بموضوع النظافة يجر بالبعض لأن يتجاوز حدوده الطبيعية ليقع فريسة سلهة لإملاءات الواسواس القهري الذي يصعب إنفكاكه منه. فلا تستغرب أن يمتنع البعض عن مصافحة الآخرين ويعقم يده من كل شيء يلمسه وأن يستغرق الساعة والساعتين في دعك اليد وغسلها ويصبح همه وشغله الشاغل ورسالته في الحياة هي غسل يده، وهذه أبرز مظاهر اضطراب وسواس النظافة القهري.
وبعدما يصاب المرء بالوسواس القهري يصبح همه وشغله الشاغل هو التخلص من كابوس الوسواس القهري الحارق لطاقة النفس بدلاً من حماية نفسه من «كورونا»، وربما لو استقبل من أمره ما استدبر لفضّل الإصابة بـ»كورونا» على أن ينفك من سجن الوسواس القهري.
لقد مرّت البشرية بأمراض وبائية عديدة لكن الحكومات لم تعاملها بدرجة التخويف والإرجاف كما حصل في الآونة الأخيرة. لذا فلا غرابة أن تتزايد أعداد المصابين بالاضطرابات النفسية ذات العلاقة بسبب هذا الإرجاف غير المدروس نفسيًا.
ختامًا إذا كانت وزارات الصحة معنية بتكثيف الوقاية من الأمراض العضوية فلا تنس أن عليها أيضًا تكثيف الوقاية من مسببات الأمراض النفسية، أن تبعات التخويف المرضي من المرض أخطر من المرض ذاته، «فلا للتخويف لحد الإرجاف، ولا للإهمال لحد السذاجة».
وأخيرًا للمرة الأخيرة: إن «فلم كورونا الصين» لم ينته بعد وما زلنا نعيش وسطه ونتعايش أحداثه، لكن ما إن نشاهد آخر فصل من فصول الفلم إلا وسيكون لنا كلام آخر.