أ.د.محمد بن حسن الزير
حين واجه الشيخُ محمد بن عبد الوهاب في حريملاء، التي كانت منطلق دعوته، بعد وفاة والده عام 1153هـ 171739م، وشهدت مرحلتها التأسيسية، صدودَ بعضهم عن دعوته الإصلاحية في مجال الدين عبادة وسلوكًا، وكان مع هذا الصدود محاولات جادة من بعض الفساق في البلد لقتله؛ بدليل أنهم من أجل ذلك تسوروا بيته للفتك به؛ لم يجد بُدًا من أن يرحل مهاجرًا إلى بلد آخر يجد فيه القبول والنصرة.
وقد توجه إلى العيينة، عام 1156هـ 1743م، وهي مسقط رأسه، ومكان نشأته وتعلمه، وموطن أبيه (عبد الوهاب بن سليمان بن علي من آل مشرف من وهيب) الذي كان قاضيًا بها، قبل أن يحصل خلاف، أدى إلى انتقاله إلى حريملاء، وقد تلقاه حاكمها (عثمان بن حمد بن عبد الله آل معمر) بالقبول والترحاب والإكرام، و»حث الشيخ محمد بن عبد الوهاب الأمير عثمان على النهوض لمناصرة الدعوة التي يدعو إليها وقال له: «إني لأرجو إن أنت قمت بنصرة كلمة «لا إله إلا الله» أن يظهرك الله فتملك نجدًا وأعربها»، فآمن الأمير عثمان بالدعوة ووعد الشيخ بالمساعدة والنصرة، والسير تحت لوائها. عندئذ أعلن الأمير عثمان بن معمر بين الرجال المقربين إليه تأييده للشيخ (محمد بن عبد الوهاب) ودعوته كما أوعز لأهالي العيينة بوجوب توقير الشيخ وإكرامه واتباع أوامره وتجنب نواهيه، واتباع ما يدعو إليه؛ فانتمى إلى الدعوة كثير من أهالي العيينة، بعد هذا الإعلان، وازداد أتباعها، واشتدت قوة وبأسا» (حسين خلف الشيخ خزعل؛ تاريخ الجزيرة العربية.. ص82).
وشهدت العيينة مرحلة مهمة من مراحل التدريس والتعليم وانتشار الدعوة الإصلاحية وظهورها، وبلوغ صوتها أنحاء متفرقة من الجزيرة العربية؛ وبخاصة بعد أن شرع الشيخ بتطبيق الحدود، وإزالة مظاهر الشرك والمنكرات؛ من مثل تقديس القبور والاعتقاد بأن الموتى من الصالحين ينفعون أو يضرون؛ وكان من ذلك رجمه للزانية بعد اعترافها، وثبوت الحد عليه، وهدمه لقبة قبر (زيد بن الخطاب، وقطعه لما يتبرك به الجهلة والعوام من أشجار، وهنا بدأ يواجه مرة أخرى، بعض التشكيك والتشويه والمخالفة من بعض العامة وغيرهم، وواصل ثباته ومنافحته عن دعوته ومنهجه، وكتب في ذلك رسائل بيان وتوضيح إلى بعض أولئك المناوئين؛ ومنها رسالته إلى (أحمد بن محمد بن سويلم وثنيان) ورسالته إلى «أهل الرياض ومنفوحة، وإلى عبد الله بن عيسى قاضي الدرعية.. (و) إلى عبد ارحمن بن ربيعة أحد علماء ثادق.. (و) إلى علماء أهل الدرعية؛ عبد الله بن عيسى وابنه عبد الوهاب، وعبد الله بن عبد الرحمن..(و) أحمد بن يحي أحد علماء رغبة..(و) رسالة ثانية إلى سليمان بن سحيم» (خزعل ص 85، 89 ،90، 104،93،94).. إلخ تلك الرسائل التي واجه بها فكريًا وعلميًا أفكار مناوئيه، وشبهات منتقديه.
وقد كان لثباته وإصراره على المضي في دعوته قولاً وعملاً، أن يجد من أعدائه ومناوئيه؛ من قريب وبعيد المجاهرة بمخالفته، والتشنيع عليه، والطعن فيما جاء به؛ وكان منهم بعض المنتسبين إلى العلم الذين كتبوا في ذلك الكتب والرسائل ضد الشيخ، وأن ما جاء به إنما هو من البدع المنكرة، وأذاعوا ذلك بين الناس» فكتب بعض هؤلاء رسائل عديدة إلى بلاد الأحساء ومكة والمدينة والبصرة وبغداد والشام يُظهرون للناس أن الدعوة التي يدعو إليها الشيخ (محمد بن عبد الوهاب) هي خروج عن الدين، وأنها من حركات الضلال والفساد والكفر، وأن صاحبها من أشر الخوارج طريقة. وصنفوا المصنفات الكثيرة، واتهموا الشيخ فيها بأنه صاحب بدعة منكرة ومارق عن الدين الإسلامي ومغير للشرع المحمدي، ولا معرفة له بدقائق الدين، وسطروا في مصنفاتهم حتى الجزم بكفره، وبلغ من سوء نيتهم، وكمين حقدهم أنهم أنكروا من الشرع الأمور المعروفة، حتى أنهم اتهموا الأمير (عثمان بن معمر) ومن معه بأنهم يتخلفون عن صلاة الجماعة، ويهملون تأديب من يتخلف عن القيام بها، وكذلك في جباية الزكاة، وفي غير ذلك من أمور الدين»(خزعل ص116-117).
وواصل الشيخ ثباته على دعوته، وواصل بيانه للحق برسائله مفندًا شبهاتهم، وداحضًا مزاعمهم، وألف كتابه (التوحيد فيما يجب في حق الله على العبيد)، وأعقبه بكتابه (كشف الشبهات)، وقد كان لهذا الصمود الجاد من الشيخ في العيينة أثره الفعال في استثارة مخاوف بعض رؤساء البلدان وحكام الأقاليم وشيوخ القبائل من هذه الحركة الجديدة التي تهدد زعاماتهم، وهي مخاوف أذكتها في نفوسهم ما يروج له أعداء الدعوة وخصوم الشيخ من دعاوى باطلة، وما فيها من تحريض لأولئك الزعماء السياسيين الذين يخافون على مواقعهم ومكاسبهم في السلطة والرياسة!
وهنا يجد الشيخ نفسه ودعوته يواجهان خطرًا محدقًا، يأتيهما هذه المرة من الشرق، من حاكم الأحساء (سليمان بن محمد الحميدي) من بني خالد، وكان صاحب نفوذ وسطوة، في مساحة واسعة؛ فقد بلغه عن الشيخ ما بلغه، وكان بينه وبين حاكم العيينة علائق سياسية ومالية؛ فقد كتب إلى (عثمان بن معمر): «اخرج هذا المطوع من بلدك إلى آخر جزيرة العرب، أو أرسله إليَّ وأنا أبصر به؛ فإن لم تُجبني إلى أحد هذين الأمرين اقطع خراجك الذي لك في الأحساء، وامنع جبايتك من النخيل الذي لك عندنا»(خزعل ص 141).
وفي حيرة وارتباك اطلع ابن معمر الشيخ على كتاب صاحب الأحساء، وذكر أنه لا قبل له بمخالفته ومحاربته «فانظر ما أنت فاعل!» فبين له الشيخ أن ما يدعو إليه هو كلمة «لا إله إلا الله» وإقامة الدين.. «فإن أنت تمسكت بذلك ونصرت الله فالله مظهرك على أعدائك ولا يزعجك سليمان ولا يفزعك بتهديداته، وإني لأرجو الله أن ترى من التمكن والقدرة ما تملك به بلاده وما سواها وما دونها»، فأثّر ذلك في نفس ابن معمر، فأعرض عن تنفيذ مطلب حاكم الأحساء؛ مما حدا بالأحسائي أن يعيد طلبه مرة أخرى؛ ولكن بلهجة مفعمة بالوعيد الشديد؛ فقد جاء فيها: «إن هذا الشخص النجدي الذي عندك قد فعل ما فعل وقال ما قال؛ فإذا وصلك كتابي هذا فاقتله وإن لم تفعل فإني سأمنع تجار بلدك عن التردد على أطرافنا في الأحساء والقطيف وسواحل قطر وغيرها؛ بل أمنعهم من جميع البلدان التي تحت يدي» ( خزعل ص 142).
وهنا تحوَّل الشيخ ودعوته في نظر ابن معمر وبعض أهل العيينة، إلى كابوس يجب أن يتخلصوا منه، وإلى مصيبة قد حلت بهم، وأنه باب شرّ، وأن عليهم أن يفروا منه فرار السليم من صاحب المرض المعدي، فحزموا أمرهم، وطلبوا منه أن يغادر البلد إلى حيث يشاء؛ وبخاصة أن (سليمان بن شامس العنزي) رئيس قبائل من عنزة كانت تقطن في أطراف العيينة، قد بعث تحذيرًا وتهديدًا لأهل العيينة بسبب إيوائهم للشيخ، فخرج الشيخ يوم الجمعة وهو يردد قول الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}، ويكثر من قول: «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر» متجهًا إلى بلد (الدرعية). وللحديث صلة.