سهام القحطاني
الغذامي بالنسبة لجدة ليس فقط أكاديميا ومثقفا كانت له بصماته الفكرية على نكهة الثقافة الجداوية، بل يمثل لجدة مرحلة ثقافية شكلت تاريخ فكرها الأكاديمي والثقافي والأدبي، ولا نبالغ إن قلنا إن جدة كانت في حضرة وجوده الثقافي التنويري العاصمة الثقافية للسعودية ومحط أنظار الجميع لِم كانت تمثله في تلك المرحلة من تفاعل ثقافي وجدل فكري بين التيار الحداثي والتيار التقليدي، وهذه المرحلة هي التي خلقت من الغذامي «أيقونة ثقافية جدلية» إضافة إلى ما انتهجه فيما بعد من مراجعات فكرية.
إن ما يميز الغذامي كمفكر عن غيره هي مميزاته ومنها؛» الكاريزما الثقافية»، فقبل الغذامي لم يكن هناك ما يُعرف «بالنجم الثقافي» في قالبه الجماهيري، إلا أن الغذامي استطاع أن يُصبح بجدلية الحداثة -ومازال- «نجما ثقافيا جماهيريا» سواء بمؤيديه أو معارضيه، أو بشجاعته الفكرية التحولية، وهي نجومية جماهيرية لم يكن يحظى بها في المجتمع السعودي سوى رجال الدين.
كما تميّز الغذامي بالذكاء المعرفي؛ فالمعرفة ليست سلسلة معلومات فقط بل هي كيف توظف تلك السلسلة لتصنع منها خارطة ثقافية تجمع أنت والآخر على ذات وقدر المسافة من التأثر والتأثير، وهو الذي قصدته «بالذكاء المعرفي».
كما تميز «بالديناميكية الثقافية» التي كان لها الدور الكبير في مراجعاته الفكرية، تلك المراجعات التي كانت توسع دائرة نجوميته من جانب ودائرة منتقديه الثقافيين من جانب آخر.
إن ما يميز الغذامي كمفكر إضافة إلى تلك المميزات شجاعته على القيام بمراجعة مدونته الفكرية وتجديد خطابه الثقافي وفق النبض الثقافي المستجدّ الخاضع للنموذج النهضوي؛ لأن الإيمان المطلق بثوابت كينونة فكرية معلومة هو أمر صانع للوثنية الفكرية التي تجلب الرجعية والموت إكلينيكيا للمثقف وهذا ما غيّب الكثير ممن كان مع الغذامي في بداياته الفكرية عن دائرة الضوء والتأثير.
غالبا ما تقترن الشجاعة بالتمرد، والغذامي يملك شخصية ثقافية ثورية متمردة وهي شخصية جاذبة للصراع الفكري والجماهيرية وهذه الجاذبية هي التي احتفظت بالحيوية الفكرية للغذامي حتى اليوم.
إن تلك الشجاعة بجناحي الثورة والتمرد هي التي كسرت حاجز الخوف الثقافي عند الغذامي، فالخوف الثقافي هو الذي يحبس الناقد في أزيائه المختلفة في قفص «النسقية الأيديولوجية والطبيعة النفسية والإمكانية المعرفية».
وقلّة هم من يستطيعون تخليص ذواتهم الفكرية من هيمنة تلك النسقية، قلة هم من يملكون شجاعة تجديد ذواتهم الفكرية وإعادة تدوير السؤال الثقافي واستثمار خاماته المعرفية.
والغذامي كان من هؤلاء القلة التي استطاعت في البدء تحدي النسقية الثقافية في صورتها الثابتة أو المتداولة، ثم تجديد خطابه الثقافي ومرجعياته الفكرية.
فانتقاله من الناقد الأدبي إلى الناقد الثقافي من المشروع الحداثي إلى المشروع الصحوي بالدلالات التي رمّز بها رؤيته الفكرية، فالغذامي تعامل مع المشروع الصحوي كمنظومة من العلامات الثقافية وليس كمنظومة أيديولوجية، وهذا مالم يفهمه منتقدوه في ذلك الوقت.
كان انتقال الغذامي إلى ما بعد الحداثة هو الانتقال من النخبوي إلى الشعبي ومن سلطة الوصي إلى سلطة الفرد، والانصهار مع التفاصيل اليومية لذات الجماهير.
وبهذه الانتقالات يمكن تقسيم النهج الفكري للغذامي إلى أربع مراحل، مرحلة الحداثة، مرحلة النقد الثقافي ما بعد الحداثة، مرحلة الانضمام إلى المشروع الصحوي، مرحلة مابعد سقوط المشروع الصحوي وتمرد الفرد على سلطة «الوصي» سواء في نسخته الدينية أو الثقافية، وما صحبها من مرافق تعبيرية.
لقد وضع الغذامي الفعل الاجتماعي الارتدادات الثقافية والتفكيرية تحت مجهر تحليله الثقافي باعتبار تلك الارتدادات هي ممثلة «للسردية الحرجية» بتقلباتها ومظاهرها وسلوكاتها التقنية بدءا من مواقع التواصل الاجتماعي وصولا إلى «العقلانية الجديدة» أو كما يُسمى «الذكاء الاصطناعي» والتحول الثالث للثقافة بعد الكلمة والصورة إلى العلامة الرقمية.
وهذا الرصد المستمر للديناميكية الثقافية سواء السعودية أو العالمية هي التي تحفظ للغذامي حيويته الفكرية وبريقه الثقافي وفاعليته التأثيرية ونجوميته الجماهيرية.
قد يختلف البعض على المدونة الفكرية للغذامي لكن بلاشك يتفق الجميع على أنه أيقونة فكرية لن تتكرر وعقل معرفي نهضوي وتاريخ ثقافي مستقل في ذاته، وعلامة معرفية فارقة في تاريخ الفكر السعودي.