د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
فاتحة:
«إن أحسنتُم أحسنتُم لأنفسِكم وإن أسأتم فلها»
قبل الصورة..
** حمَلَنا «الطريقُ للرفقة» فلم نقعْ في مأزق المفاضلة بينهما، فالرفيق هو الغذامي الصغير يحمل رسائل الغذامي الكبير، والطريق متجه نحو بيتينا المتقاربين لا المتجاورين، وبيننا آصرة ودٍ قرّبت المسافة التي نقطعها مشيًا وئيدًا يعبره المتعجِلون في دقائق ونقضيه في بعض أجزاء الساعة، وهل أجمل من حكايات الصبية حين يتمردون على الوقت؟!
** كنا (صالح الغذامي وصاحبُكم) بعد سماع صافرة أبي عمر (عبدالرحمن العمري رحمه الله) معلنة نهاية الحصة السادسة نلتقي عند باب المعهد العتيد، ونسير الهوينى لنحكي عن كل شيءٍ وبعضِ شيء ولا شيء حتى يحين مفترق الدرب، والوعد الغد بموعدٍ متجدد.
** المعهد والمعلمون والزملاء هم الحكاية، والحكّاءان فَتَيان قد ينضمُّ إليهما ثالثٌ ورابع؛ فمسيرةُ الأقدام هادئة، ووشائج القلوب هانئة، ولا أسرار تمنع المشاركة، كما لا أسوار تغلق النوافذ وإن حجبت المنافذ.
** في هذا الممشى اليومي تعرف على الغذامي الكبير من خلال بطاقة بريدية بعث بها إلى شقيقه، فأراها إياه، وفاجأه خطُّها، وكان صاحبكم حديثَ عهد بمديح مُجيدي الخط، وسرح صاحبكم ثم صرّح، فما بال مبتعثٍ كبير بخطٍ كسير؟! وطوى استفهامَه، فالأمر لا يعنيه، وليس على معرفةٍ بمن يكونُ شقيقُ صديقِه ذلك الحين.
مع الصورة..
** افترقت بنا الأيام فالأعوام ونسي الخطّ والخُطى، ثم قادته مصادفاتُ الزمن ليكون مسؤولاً ثقافيًا في العام الذي وُلد فيه كتاب «الخطيئة والتكفير» -1985م- وعاد اسم الغذامي الكبير من الباب الأكبر، واستعاد حكاية الخط، ووعى ما قيل عن العباقرة بأنهم ذوو خطوطٍ بائسة فلا وقت لديهم لتزيينها، مستشهدًا بخط شيخ الإسلام ابن تيمية الذي لا يكاد يُقرأ حتى روى «ابنُ كثير» أن أحد نساخِ كتبه، وهو أبو عبدالله ابن رُشيق المغربي، أبصرُ بخطه منه، واستعاد خطَّ الشيخ عبدالرحمن السعدي غفر الله له، وقرأ عن خطوط «سفيان الثوري وابن عساكر والخطيب البغدادي» وغيرهم، وكاد يؤمن بنظرية تلازم الخط المتواضع والنبوغ الساطع، ثم أيقن - بعد تأمل- ألا رابط ولا ضابط.
** أنار الغذامي وأثار، وتساءل صاحبُكم عن هذا المعهدي التراثي المحافظ يواجه تقليديتَه بحداثيته، وخَطه بخُطاه، وصمتَه بضجيجه، فكأنه انبعاثٌ مختلف لشخصية مختلفة، ولأنه نأى بنفسه وبصحيفته عن جدليات الحداثة حين تجاوزت الحوار إلى الحصار، وصارت الصفحاتُ والملاحقُ الثقافية ذاتَ نهجٍ إقصائي ملتزمٍ بأحد الاتجاهين المتصادمين، فقد انضممنا إلى « حزب الكنبة» الذي يقرأ صامتًا ما يبعثه الغبار أو ينبعث منه، وظلت متابعتُه المحدودة في معظمها متجهة لهذا الغذامي الكبير حبًا له وخشية عليه.
اللقاء الأول..
** لمُقامه في المغترب ثم عمله في جدة لم يتفق أن التقى صاحبكم بالدكتور الغذامي بالرغم من معرفته بوالده (أبي عبدالله) رحمه الله وشقيقيه: الأوسط على (أبي الوليد) وصالح (أبي حازم) حفظهما الله، وجاءت المصادفة حين التقى به في مجلس أستاذنا عبدالرحمن البطحي»مُطلَّة» في أحد أعياد رمضان، ولأنه مجلسٌ اعتدنا أحادية صوته فقد ظل الجميع منصتين لسيد المجالس « البطحي» كما وصفه الغذامي نفسُه، غير أن صاحبكم - وقد كان يرقب ما سيقوله صاحب الخطيئة والتكفير -التقط منه جملة وحيدة قالها- إثر ثناءِ الأستاذ البطحي رحمه الله على أحد شخوص عنيزة لعمل خيري قام به- فعلق أبو غادة بتلقائية: «يلقاه عند ربّه»، وكانت عبارة موحية من شاغل الناس بالبنيوية والتشريحية وما بينهما حين اصطفائه عبارة تقليدية ذات إيقاع إيمانيٍ جميل؛ فثلاثُ كلمات تغني عن ثلاث معلقات: معلقة مديح ومعلقة وعظ ومعلقة دعاء.
لقاءات..
** بعد انتقال الغذامي إلى الرياض اقتربت المسافة أكثر، وحصل اللقاء الثاني في استراحة أصدقائنا المفتوحة، وفوجئ هذه المرة بروح الغذامي المرحة وتمكنه من إلقاء الطُّرف باحترافية لذيذة، وعلى الرغم من طول الجلسة فلم يُبدِ شيئًا من ثقافته أو يستعرض بعضًا من معلوماته، وبدا النخبوي شعبويًا قبل أن يعلنَ سقوطَها في طرحه الأشهر عبر كتابه عن «الثقافة التلفزيونية» وما سبقه وما لحقه.
** توالت اللقاءات بعد ذلك في جلسة الدكتور حمد المرزوقي حتى صارت منتظمة مساء كل أربعاء، وعرف صاحبكم عالمَ الغذامي التعدديَّ وذاكرتَه النشطة واستدعاءاتها المتلاحقة، أجاء الحوار جادًا أم هادئًا، وسواء أَمتلأ بذكريات الأدلجة أم بذاكرة اللجلجة، وأوشكت جلسةُ فندق صلاح الدين ثم جلسةُ الصديق الأستاذ عبدالرحمن الذكير اللتان خلفتا جلسة المرزوقي أن تصبحا جلسة للغذامي فهو متحدثُهما أو موجهُ الحديث فيهما، وهو هنا يشبه أستاذنا البطحي؛ ففي حضرتيهما يحلو الصمت.
بعد التصور..
**عبدالله الغذامي إنسان وفي حفي لطيف محب للخير، شهد صاحبُكم له مواقفَ لا يعرفها البعيدون؛ تؤرقه دمعة محتاج، ويعنيه قضاء حاجة.
** اتصل بعد فجر أحد الأيام وقال: إنه لم يستطع النوم حيث شكا صديق له وضعه المادي، وكان يظنه من الأثرياء، واقترح البحثَ معه عن عمل له فتم ذلك بفضل الله، واحتاج صاحبٌ لنا إلى عون مادي فلم نستشره ووضعنا اسمَه الأول لثقتنا بموقفه، وحين كونَّا مجموعة لتكريم عدد من الرواد النائين سابقَنا مسهمًا معنا بتكاليفها، وأشرف صاحبُكم سنواتٍ على بعض صدقاته؛ كتب الله له أجرها.
** رغم برمجة وقته الصارمة في الأعوام الأخيرة فإنه المبادرُ لزيارة مريض وعزاء مكلوم وتهنئة مناسبة.
** حين أطلعه على إصابة كُليته عبر رسائل متبادلة بينهما أكبر من قرأها منشورة في «الثقافية» رضاه وصبرَه واحتسابَه، وروى مرة حوارًا دار مع طبيب بريطاني قال له: عجبت منكم حين يبلغكم نبأ الإصابة بمرض عضال حيث تصمتون ثوانيَ معدودة ثم تعودون مشرقين كما كنتم، بينما ناسُنا يتضجرون ويبكون فيكتئبون، فردَّ عليه بلسان الحال: إنه الإيمان؛ ثقة بأن ما عند الله خير وأبقى.
** بعد العملية نفسها سأله: من دفع تكاليفها فأكَّد أنه هو إِذ لم يطلب، وقبل سنوات أسرَّ لصاحبكم ساخرًا أن بعضًا يظنون أنه كتب تغريداته عن الرؤية إبان إعلانها بمقابل، وصرَّح علنًا أنه اعتذر عن مناصب رسمية، كما اختار التدريس المجاني بعد تقاعده من الجامعة اقتداءً ببعض أساتذته.
** لاحقه صاحبكم محاولاً طلبًا لرضا الله وإقناعه بالانضمام إلى «تويتر» ورفض مرارًا فتركه لاقتناعه ثم فاجأه بعد لقاءٍ «أربعاوي» بعزمِه على دخول هذا التطبيق وطلبِ الإعلان عنه، وهو -اليوم- أحد أرقامه الفاعلة.
** وصل للثقافية مقال للنشر عنوانُه: هل أفسد الغذامي الثقافة السعودية؟ فلم يشأ صاحبكم مفاجأته، وبعثه له بعد أن اعتمد العدد ليقرأه قبل غيره لا أكثر؛ فاتصل شاكرًا، وقال: لا تعرضْ علي شيئًا وانشر ما يصلك مهما بلغت حدته.
** صبر ولا يزال أمام مواقفَ غيرِ مبرأةٍ من بعض مناوئيه الذين أعشاهم ضوؤه وخلَّفهم وراءه فلم يقابلْهم بمثل تقوّلهم وظلَّ مواجهًا غيرَ هيّاب، ولا يُذكر أنه أساء لإنسان بشخصه فكفاه النص، وكذا يشمخ الفرسان وتورق الفروسية.
بعد البَعد..
** يُطلُّ استفهام ملح وهو: هل تبدل الغذاميّ بسقوط النخب أو إسقاطها؟! وهل صار شَعبويًا في طرحه واهتماماته؟
** لا شك أن الغذامي يعايشُ مرحلة مختلفة في مسيرته مثلت حالة جدلية بين محبيه وتلاميذه المؤمنين بمكانته وإمكاناته والباحثين في ندوبٍ وعيوبٍ يُصفُّون بها حساباتِ نفوسهم معه، ولأنه ما يزال داخلَها فيصعب الحكم لها أو عليها حتى تكتمل رحلته فيها مثلما اكتملت مراحل سابقة آذنت بقراءةٍ عادلةٍ واستقراءٍ موضوعي.
خاتمة..
سيبقى الأستاذ الدكتور عبدالله الغذَّامي رقمًا مهمًا في ثقافتنا المحليَّةِ والعربيَّة، وحين قدَّمنا عنه عددًا خاصًا في « المجلة الثقافية» قبل سنوات حرَصنا على ألا نستكتبَ أي مثقفٍ أو أديب أو أكاديمي أو صاحبِ قلمٍ سعوديٍّ كي لا يظنَّ من في قلبِه هوىً أو عقلِه سوءُ ظن أنه عددُ مجاملة، وتوقف «أبو غادة» عند صورة والده رحمه الله التي حصلنا عليها بشكلٍ خاص- ففاجأته وفاضت دموعُه، ودعا لنا وقتها، وسنظل ندعو له مثلما كنا، وربما لخَّص هذا الموقفُ - إذا انضمَّ إلى ما كتبه عن «الجُهنية» ما يحتويه فؤادُه النقيُّ من برٍ وخيرٍ وعرفان ليتحد النصُّ والشخصُ في صورةٍ بهيةٍ لا ترتسمُ إلا لقلةٍ من الكبار.
ورقةٌ أعدت لملتقى النص السادس عشر بنادي جدة الثقافي 4-6 فبراير «شباط» 2020م