د. إبراهيم بن محمد الشتوي
وكثير من الباحثين يعدون هذا الظهور من قبيل امتزاج الثقافات، وقدرة الإسلام على صهر المكونات المختلفة في مكون واحد، كما يعدونه أيضاً نموذجاً من نماذج سماحة العرب، وتمثلهم لقيم الإسلام التي جعلتهم لا يبالون بأصول من يأخذون عنه علمهم، أو يصدرونه في مجالسهم، ويتحلقون عليه في مدارسهم، ويجعلون من نبغ من غيرهم في مصافهم.
في حين أن المستشرقين يعدون هذا دليلاً على تجذر الثقافة اليونانية والرومانية، وبدرجة أقل الفارسية في الحضارة العربية، وأن هذا الحضور القوي كان عن طريق هؤلاء العلماء الذي بزغوا في الثقافة العربية، وكانوا قد تزودوا بالثقافة الأجنبية من قبل.
وهنا يأتي السؤال الذي تغض الدراسات الطرف عنه وهو مستوى انصهار هؤلاء العلماء الذين أشرت إليهم في المقالة السالفة في المادة العربية الاجتماعية والثقافية حتى أصبحوا جزءاً منها لا يختلفون عن أبنائهم.
فالمتعارف عليه أنهم من أبناء الموالي، وهذا يعني أنهم نشأوا منذ نعومة أظفارهم في أحضان الأسر العربية، وتربوا على أعينهم، وأنهم قد نسوا في الغالب ما كان عليه آباؤهم وذلك لانقطاع الصلة به، ولبعد العهد عنه كما في حال عكرمة مولى ابن عباس، أو نافع مولى ابن عمر أو زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب، وقد يكونون ممن تنطبق عليهم نظرية الجيل الثالث الذين انصهروا في الثقافة الجديدة كمحمد بن إسحاق إذ يروى أن جد أبيه خياراً هو الذي كان من سبي عين التمر، وهي صورة تختلف عن الحالة التي يراها المستشرقون وأشرت إليها من قبل.
وإذا افترضنا أن ما يذكره المسشترقون غير ممكن خاصة في القرن الأول، فالعربية والعرب حديثو الانتشار وليس بمقدور هؤلاء القادمين من الأصقاع وقد استوى سوقهم، واشتد تكونهم في العلوم أن يتقنوا العربية، ويحسنوا الحديث فيها، فاللغة العربية ستمثل عائقاً أمام حديثي الاستعراب للتأثير في العلوم العربية، فهم غير قادرين على الكتابة والخطابة باللغة العربية إلا من خلال التواصل الشفوي إما مع أبناء جلدتهم من غير العرب أو من شداة العلم والمعرفة من أبناء العرب أنفسهم.
ولذا فإن السؤال الآن يتصل إلى أي حد كانت بيئات هؤلاء الأعاجم الضيقة منغلقة على أنفسهم، ومحتفظة بثقافتهم الأولى بحيث تستطيع أن تقاوم الثقافة العربية (البدوية)، فتسرب ثقافتهم الأولى إن كان هناك مصدر للتسرب، وتقاوم الانصهار بالثقافة العربية الغالبة المحيطة بهم.
حين نقرأ في سيرة أبي حنيفة مثلاً نجد المؤرخين يذكرون أنه ولد بالكوفة لمولى بني تيم الله كان في أسر كابل، ما يعني أنه نشأ في أسرة ذات ثقافة غير عربية، وهذا يعني أيضاً أنه نشأ في بيئتين الأولى البيئة الضيقة وهي الأسرة، والثانية البيئة المحيطة الخارجية وهي العربية، وبناء على الخلاف بينهما فإن هذا يعني أن هناك أيضاً صراعاً بينهما على تكوين الشاب والتأثير فيه.
والأمر المهم هو أنه لم ينشأ في بيئة عربية خالصة كحال الموالي الذين تحدثت عنهم في صدر المقال، وإنما نشأ في كنف أبيه (أو ربما جده)، الذي جيء به أسيراً من كابل فهو رجل محارب، ما يعني استصحاب بيئته الأولى في تكوينه، مما لا نستطيع إنكار أثر تلك البيئة فيه، فهي لغته الأم، وهو يتخاطب بها في كثير من شئونه ولا يبعد أنه يقرأ فيها ويكتب.
بيد أن هذه الفرضية - فرضية المستشرقين - تصح فيما بعد، حين استقر العرب في الأصقاع البعيدة، وأسسوا حواضرها الناطقة بلغتهم، وتوافد الناس من الأجناس يتقنون العربية ويتقربون إلى أصحاب السلطان فيها، ونشأ فيهم أجيال أتقنوا العربية، وعلومها وضموها إلى معارفهم الأولى، وحين بزغ نجمهم كانوا قد اشتد سوقهم في ثقافتهم إلى الثقافة العربية سواء كانوا في أقاليمهم أم في حواضر العراق والشام.
وهؤلاء في القرن الثاني وما بعده بعد تتابع الأجيال، واستقرار السلطان حيث نجد عدداً من العلماء ذوي الأصول غير العربية البارعين في العربية مع احتفاظهم بأرومتهم الأولى وأصولهم، كخلف الأحمر الذي وُلد لأبوين من فرغانة، وكان يتحدث الفارسية، وحماد الراوية بله ما كان في القرن الثالث وما بعده حين تعززت البيئات الفارسية، وظهرت دول للديلم والترك والفرس كآل العميد، وآل الحسين وبني بويه ونحوهم، ممن كان لهم ذكر وصول في الحضارة العربية القديمة وتشجيعها، وحث العلماء، وقد كانت اللغات الأصلية حاضرة في تلك البيئات وفي لسان المنحدرين منها من أمثال الفارابي الذي قيل إنه يحسن أكثر من ثلاثين لساناً، والخوارزمي والتبريزي وكان يتحدث بالفارسية وهو في مجلس أبي العلاء المعري، والحكايات التي يرويها أبو حيان التوحيدي وغيره عن مجالس الصاحب أو بيت المتنبي المشهور وهو يمدح عضد الدولة:
ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان.