عرض وتحليل - حمد حميد الرشيدي:
للشاعر مبارك بن دليم السبيعي، الملقب بـ(ميمون) لغة شعرية تختلف عمّا قرأته لغيره من كثير من الشعراء في العصر الحالي.
إنه من أولئك الشعراء الذين يخلعون على شعرهم حلة قوامها أهم عنصرين في تكوينه المادي والمعنوي، ألا وهما (الزمان والمكان) أو ما يعرف بـ(الزمكان) لدى النقاد. وبدون هذين العنصرين الأساسيين لا يمكن أن نصف تجربة مبارك بن دليم كشاعر واقعي، امتدت تجربته الشعرية لعقود طويلة من الزمن، كان المكان لديه - بمعناه الجغرافي - هو مسرحه الشعري، الذي تجري على خشبته جميع أحداث الحياة من حوله، بحلوها ومرها، حين يترجمها شعرًا، بينما يكون الزمان هو المحرك الفعلي لتلك الأحداث، مهما كانت أسبابها وصفاتها ونتائجها!
إذن هو شاعر الواقعية القائمة في أسلوبها على تصوير الأشياء والعلاقات فيما بينها تصويرًا حقيقيًا واقعيًا، كما هي عليه في عالمها الواقعي، بعيدًا عن (الفانتازيا) والرومانتيكية والرمزية.
وهذا ما يعيدنا مجددًا لتأكيد العلاقة القائمة بين (الواقعية) وعنصري المكان والزمان، كما سبق لنا ذكره، إِذ يمكننا القول - ببساطة - إنه: لا واقعية بلا مكان وزمان محددين، أو معروفين.
فلو استعرضنا المكان في شعر (ميمون) لوجدناه واضحًا وحاضرًا بكامل تفاصيله، وهذا شائع بكثرة في جميع قصائده ودواوينه، سواء ما كان منها في ديوانه هذا (وجوه أمكنة) الصادر عن (دار المفردات) للنشر والتوزيع بالرياض عام 1431هـ، أو في غيره من دواوين الآخرين.
ففي هذا الديوان - وحده - وردت أسماء لعشرات الأماكن التي عرفها الشاعر، وربما عاش في بعضها شطرًا كبيرًا من حياته، فتغنى بها شعرًا، وعلى رأسها تأتي قرية (الضبيعة) مسقط رأسه ومراتع صباه، وغيرها مما له علاقة في حياته الاجتماعية، كالرياض والخرج والقصيم وحائل، كما جاء في قصيدته المعنونة بـ(في ربى اليمامة) التي يقول في مطلعها:
يا مترف الشعر هل صافحت غدواتي وهل تطيبت من أنفاس روحاتي؟
بين الرياض ووادي الخرج متشحًا روح الأصائل أو عبق الصباحاتِ.
الديوان: ص15
ويظهر من هذه القصيدة أن مبارك بن دليم قد تأثر بما تأثر به أستاذه الشيخ عبدالله بن خميس -رحمه الله- من حبه لمنطقة اليمامة ومعالمها، كما تمثل لنا بديوانه الموسوم بـ(على ربى اليمامة) وقد أشار مبارك إلى شيء من ذلك في صفحة (الاهداء) التي تصدرت صفحات الديوان.
أما بالنسبة لعنصر (الزمان) فقد كان أيضًا ذا حضور جلي واضح في شعر مبارك بن دليم غير أنه يتخذ صورًا متعددة، منها ما هو (تاريخي) يتكئ على ذاكرة الماضي وأمجاده التاريخية كذكره ما للعرب والمسلمين من حضارات عريقة، كما جاء بقصيدته المعنونة بـ(على خطى نزار في غرناطة) التي يقول في مطلعها:
في ساحة الحمراء زاد عنادي بالفن، بالتاريخ، بالأمجادِ
اعتز بالحمراء في ساحاتها تتوالد الأبعاد من أبعادِ.
الديوان: ص10
ومنها ما هو (آني) يصف خلالها الشاعر حالة أو موقفًا ما، تعرض له في يوم من الأيام، كما ورد بقصيدته (ثرثرة يحضرها الوطن على نهر دي) وهي من شعر التفعيلة، التي يقول في مطلعها:
ويوم إجازة الأحد
رسمنا أين مقعدنا
بحرف الضفة اليمنى
لمجرى (دي) وانعقدت
هنا أولى عشايانا
بجذع الشجرة الكنتِ.
الديوان: ص64
وقد يتخذ الزمان في شعره معاني أخرى تتعلق بالزمن وتقسيماته الجزئية المعهودة التي تعارف عليها عامة الناس، كالساعات والأيام والليالي والشهور، وما يقابلها في المعنى من مترادفات.
وهذه أيضًا يكثر شيوعها في شعره، مثل قوله من قصيدته المعنونة بـ(من تونس):
أخال أقصى الأرض نجدا وما أدراك ما الخرج وما نجدُ
الحاضران دائمًا إِذ هما الدار والأهلون والوجدُ
استبطئ الساعات كم ساعة ما أبطأ الساعات لو تعدو
متى أقول إن همو بشروا: هاذي الرياض هذه نـجـدُ
سويعةَ والخرج من حولنا ألقى ضياعا نخلها يحـدو.
الديوان: ص67 + ص68
ففي هذا النص - مثلاً - يأتي اهتمامه بالزمن واضحًا، لدرجة تفريقه بين الساعات والساعة و(السويعة) بالتصغير اللفظي للزمن على سبيل التقريب.
ولهذا كله كان المكان بمعناه الجغرافي الواسع هو الحياة والوطن والأهل والعشيرة بالنسبة للشاعر، وهو ثابت بطبيعته الحسية، بينما نجد أن الزمان متغير وإحساسنا به يظل معنويًا ولحظيًا عابرًا!
وأعتقد أن اسم الديوان (وجوه أمكنة) هو كذلك مرتبط ارتباطًا واضحًا بهذا التفسير، لكون (الوجوه) عرضة للتغيير بفعل الزمن، لما لها من صفة خلقية مادية قابلة للتحول والتغير في خلقة الإِنسان، بينما تظل الأماكن بطبيعتها الجامدة ثابتة لا تتغير مع مرور الزمن، إلا أنها تختلف عن بعضها بقدر ما تثيره فينا من حنين وذكريات، عشناها في هذا المكان أو ذاك، إذ إن علاقة الإنسان بالمكان علاقة حسية نفسية اجتماعية ونسبية، تحددها جملة من الظروف والعوامل التي (تؤنسن) هذا المكان، لتخرجه من طبيعته الجغرافية الجامدة، وتبث فيه روح الحياة، ليكون كائنًا حيًا مثلنا، يشعر بنا كما نشعر به، ويحتوينا كما نحتويه.