عمري إحدى عشرة سنة... أدرس في الصف السادس الابتدائي... لا أختلف عن باقي الأطفال إلا في شيء واحد... أبي... أنا... لي أبٌ مختلف... أعرف أن أبي رجلٌ عظيم... أبي الذي كنت أراه نادرًا... وأشتاق إليه دائمًا... كان يحدثنا من هاتف له مزاجه الخاص... فمرات يرضى عنا وينقل لنا صوت أبي الحنون الذي يحمل من الحب ما لا تقوى على إيصاله الكلمات... الكلمات التي يرددها علينا كل مرة «انتبه لنفسك بابا... ذاكر... لا تتعب أمك... اعتنِ بها... أحبك بابا... سأرجع قريبًا»... ومرات يختار الهاتف الصمت... أو التشويش على الصوت الحنون؛ فلا نسمع إلا أحرفًا متفرقة... وفي مرات نادرة جدًا.. أهدانا صورة أبي وهو يحدثنا فحلقت بها قلوبنا فرحًا... بسبب الهاتف اللعين... حفرت صوته في قلبي قبل ذاكرتي... حتى أتمكن من الاستماع له دومًا...
عندما أنظر إلى أصدقائي وهم ينطلقون إلى آبائهم في نهاية كل يوم دراسي... أشعر بألم له نصل سكين حاد... يمتد من حنجرتي حتى يصل إلى قلبي ويقبض عليه بيد من حديد... أحمل ألمي بصمت وأكمل طريقي وحيدًا... لماذا تبدو حياة أصدقائي طبيعيةً جدًا... أب وأم... إخوة... عائلة كاملة الأركان... كلهم دون استثناء... إلا... أنا... كأنما الحرب أبت أن تشتعل إلا في الحد... وفي بيتنا... وفي بيت عمي محمد... عمي محمد الذي أخذت منه الحرب ساقه، وأعادته إلى أبنائه فخورًا بما منح... أذكر الليالي التي أيقظني فيها صوت بكاء أمي المكتوم... أو صوت دعائها أن يحفظ الله أبي... كلما سمعتْ الأخبار كانت تزداد خوفًا عليه... وعلينا... يزداد خوفها بقدر تكرار كلمة «الحد الجنوبي». سجادة أمي مبتلة دائمًا في موضع سجودها... تسكب عليها روحها كل ليلة... فلا تجف أبدًا. أحب صورته المعلقة في صالة بيتنا... أبتسم كلما نظرت إليها، وأطيل النظر... يبدو وسيمًا جدًا... عيناه اللامعتان...الطيبتان... وهل هناك عينان في طيبة عينَي أبي... سمرة وجهه... تشبه أشعة الشمس... تنشر النور في المكان... أتأمل زيه العسكري والنجوم البراقة على كتفيه... النجوم التي تحملني إلى مستقبل أصبح فيه رجلًا مثله... رغم أنني أعرف يقينًا أنه لن يكون هناك يومًا... رجلٌ كأبي...
أتذكر ملمس كفيه الخشنتَين... الدافئتَين... عندما مررهما على وجهي كأنه يحفظ ملامحي في ذاكرة أصابعه... أذكر كم أحسست بالأمان عندما ضمني إلى صدره... ورائحة بخور العود في ملابسه... أتذكر همسه في أذني «حبيبي أحمد... لا تخف... أنا أحارب من أجلك... من أجل أن تكون دومًا في أمان». ودعني يومها... أخد سلام قلبي وذهب.
اليوم استلمتُ شهادتي... وطلبت من عمي أن نذهب لزيارة والدي... عندما وصلنا... جثوت على ركبتي، وساويت تراب قبره بيدي... داعبت أنفي رائحة العود فهمست: «أبي... لقد نجحت... أحضرت لك شهادتي... أبي أعدك أن أكون رجلاً... مثلك... وأعتني بأمي وإخوتي... أعدك أنني لن أبكي ثانيةً... سامحني فقد غلبتني دموعي هذه المرة... فقد... اشتقت إليك».
** **
- شذى صابر