ثمة ما لاحظته، وسرعان ما تعمق تفكيري به، حتى وجدتني أمام مشروع كامل انبثق من ملاحظة عابرة، ومن الأهمية بمكان الاكتراث له.
أشير من البداية إلى أني لا أتحدث في تعددية التأليف عن الإصدارات الأدبية، ففي مقالتي هذه أتحدث عن تلك الطبقة المختصة من المثقفين والأساتذة في مختلف مجالاتهم، الذين لهم أكثر من إصدار علمي وثقافي، وأبحاث علمية، أمثال الأب أنستاس ماري الكرملي، إسرائيل ولفنسون، إبراهيم التركي، سعد البازعي، عبدالله الغذامي، سميرة بلسود، دلال الحربي، حصة الشمري، فاطمة الوهيبي، نوال الحلوة، منال المحيميد، نوال السويلم، بسمة عروس، زكية السائح، ألفة يوسف، زهور كرام، رزيقة عدناني، محمد غاليم، محمد بنّيس، عبدالوهاب المؤدب، محمد الداهي، قاسم الحسيني، عبدالفتاح كيليطو، سعيد يقطين، محمد العمري، حمادي صمود، والكثير من أمثالهم.
كل هؤلاء لهم إصدارات في مجال تخصصاتهم، وبعضهم لهم إصدارات أدبية، أما إصداراتهم العلمية والثقافية فهي تتميز بروح العطاء، والشعور بالمسؤولية إزاء القضية التي يتناولها الكتاب، وإن أعمق ما يميز إصدارات من ذكرت أن كل كتاب من كتب المؤلِف الواحد منهم يتناول قضية مختلفة عن القضايا في كتبه الأخرى، انطلاقًا من ذات الأرضية التخصصية، فلم يصدر أحدهم أكثر من كتاب جميعها تدور حول قضية واحدة تكررت في جميع مؤلفاته العلمية.
وتنوع القضايا العلمية في كتبهم، ينم عن عمق الوعي، الغوص بالعمق، إبحارًا بعيدًا جدًا عن الطفو على السطح الذي ينم عن تكرار القضية العلمية الواحدة في جميع المؤلفات، وهذا التنوع هو نعم الإثراء الذي أثروا به تخصصاتهم، ووجود أساتذة من هذا النمط اليوم في هذا العصر الذي تتهاوى به الثقافة العربية، هو نافذة أمل يشرق منها النور، فليت أننا نشير إليهم ونذكر بهم، ونتدارس كتبهم، ونلتفت إليها، خير من ترديد العبارات المحبطة للفرد العربي.
إن الأساتذة اليوم هم امتداد لمؤلفي كتب التراث، ومن هنا انطلق لذكر الملاحظة التي لفتتني؛ وهي أن المؤلفين سابقًا أكثرهم كان له أكثر من مؤلَف، أمثال الجاحظ، ابن جني، ابن طباطبا، المبرد، ابن حزم الأندلسي، ابن رشد، الغزالي، الفارابي، الجرجاني، العسكري، ابن خلدون، وغيرهم الكثير، وما أثار استغرابي أنه إذا كانت عملية الطباعة اليوم تسهل إصدار العديد من الكتب، فإن عملية الكتابة سابقًا كانت أصعب، ووجود أكثر من مؤلَف للمؤلِف الواحد؛ هذه نقطة إيجابية تحسب لصالح العقل العربي القديم.
أما العربات والطائرات فمن شأنها أن تسهل الحركة اليوم للتنقل طلبًا للعلم، التي لم تكن متوافرة سابقًا، لكن وعلى الرغم من ذلك فالحق أن تسرب الوقت من قبضة أحدنا اليوم، الذي كلنا نعاني منه يحسب نقطة تحدٍ عظيمة للأساتذة الذين يؤلفون كتبًا تحمل فكرًا عميقًا بالصراع مع هذا الوقت الهارب، وأما الحياة سابقًا لم تكن هي الأخرى تخلُ من الصعوبة التي كانت تتمثل في مختلف مجالاتها من كسب لقمة العيش وغيرها، التي من شأن الوقت أن ينفذ خلفها، وهذه نقطة في صالح العربي القديم، فإن عملية الكتابة تمر بالفكرة، القراءة، البحث، الاستيعاب، التفكر، وغيرها الكثير ثم الكتابة، فكون المؤلف يمر في كل هذا تحت ظروف المعيشة الصعبة سابقًا والوقت الهارب الآن؛ لإنتاج كتاب واحد فهو أمر شاق، فكيف بأكثر من كتاب.
ثم الشيء الآخر الذي لفتني أن التكنولوجيا اليوم، والانفتاح على العالم كله والإنسان في مكانه، أمور من شأنها أن تسهل استقبال الأفكار، ومن ثم يأتي دور التنقيب والبحث والتنظير الذي يبرز في مؤلفات الأساتذة، أما سابقًا وقبل ظهور التكنولوجيا فهذه أيضًا نقطة تحسب لصالح العربي القديم، الذي ينتج الأفكار، من مصادر الحصول عليها أصعب من توافرها اليوم، وصداها مازال مستمرًا حتى اليوم في مجال التخصص، وامتدادًا إلى خارجه.
وأخيرًا أصل للاقتراح الذي أناشد به؛ وهو مشروع لا يمكن لإنسان واحد التصدي له، ولا يمكن- بطبيعة الحال- أن يكون موضوعًا لطلبة الدراسات العليا، بل هو مشروع ينبغي أن تعمل عليه مؤسسة مختصة، ألا وهو إصدار موسوعة الفكر العربي، وتتناول هذه الموسوعة جل المؤلفات العربية منذ بداياتها في مختلف المجالات التي كتب فيها الأقدمون، وترتيبها بالموسوعة تاريخيًا بالتقويمين الهجري والميلادي وصولاً لإصدارات الأساتذة اليوم في مختلف المجالات أيضًا.
ومن شأن هذه الموسوعة أن تهتم بتتبع وملاحظة نمو الفكر العربي، ومراحل اختلاف التفكير، ورصد ذلك كله، بعين يقظة، وذلك من خلال استقراء المؤلفات العربية منذ أول المؤلفات وحتى اليوم، في مختلف المجالات التي كتب بها العرب، من اللغة والأدب والدين والنوادر والأخبار والفكر والفلسفة والطب والفلك وغيرها.
ثم إن هناك قسمًا آخر منفرد بين علوم العرب، ألا وهو قسم الفن، وتحت هذا القسم يتم جمع المادة الأدبية ابتداء من أقدم قصائد في العربية، مرورًا بمقامات الهمذاني والموشحات الأندلسية، وصولاً للإنتاج الأدبي اليوم، لكن ثمة ما هو خارج النص، فينبغي أيضًا في قسم الفن أن يتم جمع المادة الغنائية العربية، الموسيقى، والإنتاج السينمائي، فن المسارح، الرسم، النقوش المعمارية قديمًا، وكل ما من شأنه أن يكون فنًا.
أعود إلى المؤلفات العلمية وأشير إلى أنه بتتبع نمو الفكر العربي في المؤلفات العلمية، تجد المؤسسة نفسها حينئذ تقف أمام المنهجية، مما يتعين عليها أن تتصدى للقطيعة الابتسمولوجية بين طبيعة التأليف في المنهجية الذاتية سابقًا، والمنهجية الأكاديمية اليوم.
وهذا ما يجرها بكل تلقائية للتصدي لتأثير العولمة على الفكر، الذي تظهر نتائجه على المؤلفات العلمية العربية، وهذا ما يجعلها تقف أمام مفارقة بين أحادية الفكر العربي وتعدديته في المؤلفات اليوم الناتج عن العولمة؛ وتتبع امتداد هذه التعددية الفكرية سابقًا في تأثر العرب بثقافات الأمم الأخرى أمثال اليونانية والهندية والفارسية، ولذلك يتعين عليها أن تحدد الفترة الزمانية لهذه المفارقة بوضوح.
وأيضًا أن تلفت النظر لاختلاف القضايا في مؤلفات الكاتب الواحد، قديمًا وحديثًا، وأن تنظر في الأسباب المؤدية لذلك، والنتائج المترتبة، وترصد مفارقات ومقاربات المؤلفات للكاتب الواحد، وأخيرًا تنظر في إستراتيجية تعددية التأليف قديمًا وحديثًا.
وأيضًا على المؤسسة أن تنظر لأمور كثيرة أخرى، منها أن كل المؤلفات في تراثنا -تقريبًا- كان مؤلفيها رجال، أما اليوم فكما يعلم جميعنا تزخر الجامعات بالأساتذة والأستاذات على حد سواء، ولكل منهم إنتاج علمي ثري، فتنظر المؤسسة في الأسباب التي ترتبت عليها نتائج كل عصر، والمردود الإنتاجي.
كما أن بعض المؤلفين قديمًا وحديثًا يوجد من مصنفاتهم ما تتناول موضوعًا خارج التخصص الدقيق للمؤلِف، وهذه الكتب بالرغم من أنها خارج التخصص الدقيق إلا أنها تحمل فكرًا عميقًا، فتنظر المؤسسة في عمق الإنتاج لدى المؤلف الواحد بين كتب تخصصه والأخرى التي تخرج قليلاً في تناولها موضوعات ثقافية تأملية فكرية.
كما أن سابقًا لم تكن توجد الجامعات التي تحدد للفرد تخصصه الدقيق بصرامة، وعلى الرغم من ذلك فإن المؤلفين سابقًا كانوا معروفين بمجالات معينة، مع الخروج في بعض المؤلفات لموضوعات أخرى- كما أشرت سابقًا- بل حتى إنه كان يطلق على بعضهم ألقاب تخصصاتهم، مثل الجرجاني النحوي، هذا، بالرغم من أن الجرجاني بلاغي بالدرجة الأولى.
وهذا ما يجرني إلى الحديث عن قضية أخرى ناشدت بها بين بعض الأساتذة؛ ألا وهي تضافر علوم اللغة، وضرورة إعادة النظر في الفصل الصارم بينها، وهذا ما ينبغي على المؤسسة أيضًا النظر فيه، وليس تضافر علوم اللغة فحسب، بل تضافر مختلف مجالات الثقافة العربية قديمًا وحتى اليوم. والكثير جدًا من الأمور التي يتعين على المؤسسة العمل عليها.
وعمل هذه المؤسسة يكون باصطفاء جهابذة من مختلف التخصصات والدول العربية في الجامعات العربية، اصطفاء دقيقًا، مسلوخ من المجاملات، وحبذا أن يكون لكل واحد من هؤلاء الأساتذة أكثر من مؤلف علمي، وكل مؤلف يتناول قضية علمية مختلفة عن القضايا في كتبه الأخرى، وأن تتميز كتبهم بجدة الفكرة، وعمق الفكر، وبعد النظر.
والحق أنني قلقة أشد ما للقلق أن يكون عليه، على مستقبل العربية بعد مائة عام من الآن، وكما أنني أحاول التفاؤل في حفظ أبناء الجيل الحديث وجيل المستقبل على العروبة، فإن من الأهمية بمكان ألا يغض المرء الطرف عن الواقع الحقيقي، وعليه فإن العمل على مشروع مؤسسة لإنشاء موسوعة الفكر العربي بالطريقة التي شرحتها، وقتها الآن، ولا يوجد متسع من الوقت للتراخي عن هذا المشروع!
اللغة، هي الشيء الوحيد التي يتجسد بها بقاء الحضارات، حتى الرسم، الموسيقى، أراها لغات متحررة من قيد الأبجدية، أصحو في أحد الصباحات الصامتة، أتأمل العروبة التي لم يقدر لها أن تخلد إلا بواسطة اللغة، إن كان في الفن المتمثل في الشعر والآداب والغناء والتمثيل أم في المؤلفات، كلاهما لغة، وفي هذه الأخيرة أتأمل رحلة العروبة العريقة، الجاحظ الذي إن لم يمت بسقوط الكتب عليه فحتما كان سيموت من تخمة ما يحمل برأسه من العلم، عروض الفراهيدي، أغاني الأصفهاني التي تحمل بين طياتها أخبار من لم يتخلد إلا بها، ومن تخلد بغيرها، بروز مصطلح «النقد» مع قدامة بن جعفر، طب ابن سينا، جبر الخوارزمي، بلاغة الجرجاني، وغيرها الكثير، وصولاً إلى عمالقة الأساتذة الذين شيدت أسماءهم أعلاه، وأتأمل في الضفة الأخرى، انهيار اللغة مع أبناء الجيل الصاعد، انهيار يتمثل في استبدال العربية بلغات أخرى في الحياة اليومية استبدال ينبني على جهل، مجرد من الوعي والإدراك للإجابة على سؤال: لماذا الاستبدال؟ حتى إذا ما برزت شريحة شبان وفتيات من كل حدب ينسلون جندوا أقلامهم لكتابة أدبيات باللغة العربية، فإذا بنا نستبشر خيرا، حتى نُفجع أمام أدبيات جوفاء، تحمل كل شيء إلا الأدب، أدبيات أخذت تتعامل مع الأدب كصيحة عصر، ثم يتمثل انهيار اللغة في بداية انبثاق المؤلفات العلمية الضعيفة اليوم! وأخيرًا يأتي آخر تمثلات انهيار الحضارة العربية ابتداء من هجران القراءة الواعية مع الجيل الصاعد، وهذا الهجران سيترتب عليه مع تداول السنين هجران الوعي، ثم هجران الفكر العربي؛ وهنا تأتي فكرة «موسوعة الفكر العربي» فارضة ضرورة إنشائها بقوة؛ وعلى الرغم من قلقي حيال هجران العرب العروبة وبالتالي ما قيمة أن يخلد الفكر العربي بموسوعة، إلا أن هذا التخليد ضروري لفعل المقاومة أمام الانهيار، وضروري ليكون منارة لمن تبقى من المفكرين في القرون القادمة.
أرنو إلى السماء وأرسم خط العروبة وبهذا الخط أرسم دوائر، كل دائرة بها عام، أتأمل ضخامة الدوائر من أولها وانكماشها شيئًا فشيئًا، حتى أصل إلى الدائرة الهزيلة النحيلة المتضورة جوعًا اليوم، أتأمل هذا الخط العريق من العروبة ثم أصل للدائرة النحيلة، أرى بها أطفال اليوم ومراهقيه، وحتى شبابه، أنصت جيدًا لاهتماماتهم، لمدخلات تكوينهم، لبنائهم الفكري، وأجدني وأنا أتأملها أتساءل: هل سيحفظ أبناء اليوم عراقة الفكر العربي؟ وعوضًا عن تقديمي الإجابة، سألح أن مشروع «موسوعة الفكر العربي» وقته الآن، الآن.
** **
- سراب الصبيح
sarabalwibari@gmail.com