يُحكى أن قيسا واعد ليلى ذات ليلة خارج البلدة، فأشعل النار حتى أصبحت جمرا، وأقبلت ليلى بحسنها وجمالها وجلست أمامه والجمر من خلفه، تبادلا وقتها بعض أحاديث الحب والغرام .. ويُقال إنه لم يلمِسها مرة في حياته، وكان شديد الغيرة عليها .. حادثها بعذوبة ورقة فتبسمت له وكأن ضوء البدر أشرق من ثغرها فَذُهِل قيس عن نفسه، ونَسِي الدنيا وما فيها، واتكأ للخلف وهو ينظر بكل شَغفٍ إليها، حتى نَبَّهتهُ لرائحة شيء يحترق، فإذا به كان متكئا على الجمر الذي أوقده، ولم يشعر بألم احتراقه واكتوائهِ لِفيضانِ مشاعر العشق بقلبه وروحه إلى درجة الجنون، وصدق شكسبير حين قال: «ما الحب إلا جنون» فكان قيس مجنون ليلى.
يده في النار ولم يشعر بها لأن قلبه وروحه بل وكل مشاعره وأحاسيسه كانت مشغولة بليلى، فلا ألم ولا اكتواء، ولا نَشوة قلبٍ وروح إلا بالفناء والتلاشي الكامل، بنيران هذا العشق، ولا وجود لفكرة الجنس أو الميول الغريزي له. وهذا ما يسمى بالحب العذري، حب باطني خالص منزه عن الجنس، فهل كان حب قيس لليلى توق للجمال بوصفه غريزة في الإنسان للاتصال بالجمال والخير المطلق؟ أم لأن الحسن والجمال ذاتيان في ليلى؟ ولماذا لم يكن الحب هنا دافعا للرغبة الجنسية؟
سقراط كان يرى أن الحب هو توقٌ للجمال وليس للجميل، فحبك لفتاة حسناء جميلة هو في الحقيقة حب للحسن والجمال الذي تجسد في شخصيتها، وليس بها هي، فللإنسان توقٌ غريزي لعناق الجمال والخير المطلق، ولما كان من المتعذر على المرء بلوغ الجمال المطلق الكامل، فإنه يمضي في رحلة بحث لا نهائية عن قيم الجمال في الطبيعة والأشياء والبشر.
شوبنهاور على عكس ذلك لا يرى في الحب من دافعٍ سوى غريزة الجنس والتناسل وهي إحدى آليات إرادة الحياة، فإرادة الحياة هي التي تحرك جميع الكائنات في صراع من أجل البقاء، فهي تدفعك لتوفير مستلزمات الحياة وتحقيق الرغبات والتمتع بالملذات، والحب حسب شوبنهاور شعور غريزي تحركه الرغبة الجنسية كإحدى آليات إرادة الحياة، فهي تقود الفرد إلى انتقاء الأجمل والأفضل بقصد إشباع غرائزه، مما يحفظ ديمومة ورقي فصيلة الإنسان، وبالنظر إلى قصة قيس وليلى نجد أن فلسفة الحب عند شوبنهاور تلغي توق الإنسان إلى الجمال المطلق، وتربطه بالعزيزة والتناسل والصراع من أجل البقاء، فهو حب جنسي يقف في وجه الحب العذري..
قد نجد بذور فلسفة الحب عند شوبنهاور في الأسطورة التي سردها المسرحي الساخر أرستوفانس حين تساءل سقراط عن ماهية الحب في السمبوزيوم وهو التجمع الذي كان يتحاور فيه الفلاسفة والمثقفون الإغريق، تقول الأسطورة:
كان الإنسان على هيئة روحين بجسدين ملتصقين، يتحاوران ويتنادمان ويمارسان الجنس مع بعضهما، أثار ذلك غيرة كبير الآلهة «ِزيُوسْ»، فقسم الإنسان إلى شطرين، ومنذ ذلك الحين والإنسان يبحث عن شطره الآخر في تجارب حب لا تنتهي.
رغم غرابة هذه الأسطورة إلا أن دلالتها الرمزية ما زالت معاصرةً، فمعظمنا يعتقد أن الإنسان يبحث عمن يشاطره ميولاته النفسية والفكرية والغريزية فيتخذه حبيباً، لكننا حين نقف على قصة حب قيس لليلى إلى درجة الجنون، نجد أن فكرة الجنس غير واردة، فهو أفق مثالي نابع من توق الإنسان إلى عناق الحسن والجمال المطلق.. بينما الأسطورة تعكس رغبة الإنسان في البحث عن شطره الثاني الذي يحركه إليه دوافعه النفسية والغريزية أو إرادة الحياة بتعبير شوبنهاور..
فإلى أي الفلسفتين تميل؟ هل حبك سقراطي المنشأ أم شوبنهاوري المنزع؟
** **
- دخيل الشمراني