تعرض رواية (هيجان) لـ(خوزيه لويس دي فيلا لونغا) التي ترجمها منصور أبو الحسن لمحاكمة الشاعر الإسباني لوركا وإعدامه رميًا بالرصاص.
فور تعيين القومندان (فالدز) - من قبل الجنرال (كايبو دي ليانو) - حاكمًا مدنيًا لغرناطة في20 يوليو سنة 1936 حوَّل الطابق الثاني من مقره الرسمي إلى معتقل ومحكمة استثنائية دائمة الانعقاد.
حُكْم فالدز بإعدام (لوركا) دليل عملي على أن أحكامه كانت نتيجة لتصفية حسابات بين قيادات تسعى للهيمنة وفرض السلطة في غرناطة. ها هو يرد على مساعده (فونسيكا) حين حذره من ردة فعل (آل روزال) - أصدقاء الشاعر - لما طلب منه تنفيذ حكم الإعدام في لوركا بقوله: «لا يهمني. الأمر مفروغ منه إنني أرفض أن أكون ألعوبة بيد (رويز ألونسو)، وفي الوقت نفسه لن أدع لآل روزال مجالاً للاعتقاد أن بإمكانهم إملاء إرادتهم المطلقة على حاكم غرناطة المدني».
لقد استحق فالدز لقب (قصاب غرناطة الصغير) الذي أطلقته عليه الطبقات الاجتماعية التي أساء معاملتها، إذ كان - في حالات الشك - يأخذ البريء بجريرة الجاني، وطريقته في تحاشي الخطأ والخديعة هي إدانة الجميع دون استثناء، والحُكم الوحيد الذي يراه عادلاً ويرتاح إلى إصداره هو الحكم بالموت!.
قَدِم (رويز ألونسو) - نائب غرناطة في المجلس التشريعي المركزي بمدريد - لأول مرة على فالدز في مكتبه، وحذره من أن أهم القادة الكتائبيين في غرناطة يستضيفون لديهم شخصية حمراء. وبُهت فالدز ولم يصدق النائبَ لأنه حسب علمه لم يبق حُمْرٌ مرموقون في غرناطة؛ فقد صُفُّوا جميعًا، فطلب ألونسو من فالدز مذكرة توقيف بحق الشاعر (فيديركو غارسيا لوركا) - الشخصية الحمراء التي لم تُصفَّ بعد - حتى يثبت له صدق ما يقول.
سأل الحاكمُ ألونسو عمَّن يكون لوركا، فأجابه: شاعر. وحينها قلل من أن يكون لشاعر هذا الخطر، فأضاف ألونسو: «سبَّبَ لنا عن طريق مؤلفاته شرورًا يعجز عن مثلها الآخرون الذين يحملون السلاح ضدنا».
ومع عدم اقتناع الحاكم أن يكون للشعر هذه الخطورة طلب من معاونه إعداد مذكرة التوقيف وتسليمها لألونسو.
قبل أن يطلب إحضاره إلى مكتبه يستعلم الحاكم فونسيكا عن لوركا وأوصافه، ويستنتج أنه شاذ جنسيًا، ويؤكد معاونه ذلك. ثم يتعجب الحاكم من أن يكون لهذا الشاذ صداقة بآل روزال، حتى إذا ذكر له فونسيكا أنه صديق أخيهم (لويس) الصحفي الشاعر قال الحاكم: إنه في تقديري شاذ جنسيًا.. لا شك في ذلك!.
وبعيدًا عن تفاصيل القبض على الشاعر وسجنه وإعدامه؛ يهمنا في هذا المقال الحديث عن محاكمته. تلك التي لا يمكن تسميتها محاكمة إلا مجازًا، فهي لم تكن سوى (دردشة) أراد منها القومندان فالدز إشباع فضوله لمعرفة هذا الشاعر قبل إعدامه، فهو قد حكم عليه قبل أن يراه، أو يقرأ له أو عنه، فكل معلوماته عرفها في الساعات القلائل الماضية قبل مقابلته التي أجرى فيها بعض التحريات عنه.. ولنقرأ أمره لمساعده فونسيكا:
«عليك أن تنفذ عملية إعدام بهذا الـ (...) دون حاجة لأي شكل من أشكال المحاكمة. المحكمة هي أنا وقد قضيت وأصدرت حكمي»!..
بعد مثوله في مكتب الحاكم استقبله الأخير بازدراء واضح، وسأله إن كان يعرف أنه - أي الحاكم - كان من منسوبي الحرس المدني، فنفى الشاعر معرفته بذلك. فقال له:
- يجب أن تعرف.
وتبين من الحوار الذي دار بينهما أن أول أسباب غضبته هو أن لوركا هو مؤلف قصة (الحرس المدني). ولنقرأ جزءًا من هذا الحوار:
- أنت كما أعتقد مؤلف قصة الحرس المدني الإسباني؟
- نعم سيدي الحاكم. أنا هو.
- وأتصور أنك فخور بذلك؟
- يقولون لي غالبًا إنها كانت من أفضل مؤلفاتي الشعرية.
- ما رأيك فيها أنت بالذات؟
- كتبت أشياء أفضل منها.
- مثلاً؟.
...وهنا أشرق وجه لوركا وظن أن المحاكمة تحولت إلى حوار أدبي فانطلق: أوه.. أناشيد يغنيها الصغار في منعطفات الشوارع.
وهنا يعيده الحاكم إلى قصة الحرس المدني، ويطلب منه مختصرًا لموضوع هذه الرواية الشعرية. يتلعثم ويتردد لوركا فيتولى الحاكم الحديث:
- الموضوع هو قيام الحرس المدني بنهب مدينة يقطنها الغجر بعد ذبح أكثر سكانها دون الإفصاح عن دواعي وأسباب ذلك العمل.. غارسيا لوركا ما هو في الحقيقة اسم تلك المدينة؟
تظاهر بأنه لم يفهم السؤال وأجاب: ولكنها مدينة من تصورات الخيال سيدي الحاكم.
وأعلن الحاكم ارتياحه لتوقعه: كنت مقتنعًا بذلك. شكرًا.
تناول ورقة بين يديه وناولها للشاعر وطلب منه أن يقرأ. ودون أن ينظر في الورقة قرأ من حفظه: «وأنتِ غجرية جالسة أمام بيتها وفي يدها ثدياها المقطوعان الموضوعان على طبق».
فتح فالدز عينيه ليقول:
- الصورة منفرة تثير الاشمئزاز، والحرس المدني هو الذي اقترف ذلك العمل في جملة ما اقترف من أعمال مماثلة. ولكن هذا المشهد بالذات أولم تره قط بعينيك أنت بالذات.. غارسيا لوركا؟
- لا سيدي الحاكم.
- إنها إذن فرضية مجردة تمامًا؟
- شعرية سيدي الحاكم.
- هذا ما كنت أريد قوله.. الحقيقة لا أثر لها في أشعارك؟
- الأمر غير ما تقول سيدي الحاكم.
- نوِّرني كيف يكون إذن؟ أنا لست خبيرًا في هذه المادة، وأحاول أن أفهم هذا كل شيء.
قال (بحماس): في الشعر ليس المهم أن تسجل الحقيقة تسجيلاً بكل دقائقها الموضوعية يا سيدي الحاكم بل...
- سوء النية؟ إرادة الافتراء؟ حاجة الانحراف في سبل الضلال؟ الكذب؟ وأين يبقى الفكر؟ وأين يكون العقل؟
- الشعر تجسيد لهما.. نعم تجسيد لهما..
وتمضي المحاكمة على هذا النحو الذي يحاول فيه القومندان الاستدلال بحَرْفية ما كتب لوركا دون اعتبار لعنصر الخيال معتمدًا على ما تكَوَّن في ذهنه سلفًا عن الشاعر، ومستندًا إلى فهمه القاصر للشعر ووظيفته.
وقد أثبت الحاكم فالدز هذا الفهم بمنتهى الصراحة حين قال: «إنني أفضل ألف مرة العامل الجاهل الذي يرفع قبضته من وراء متراس على المثقف الذي يحضن كتبه متحصنًا وراء جدران مكتب عمله. إنني أعدم الأول رميًا بالرصاص مع شيء من الاحترام له، أما الآخر فإني أقتله بمنتهى السرور وشهوة القتل».
** **
- سعد عبدالله الغريبي