«إنَّ العالم المخفي عالم ما تحت الشعور هو المهم، والمثير أكثر من الأول، والكاتب الحديث يهتم بكشفه ويرصد أغواره ويتعرف على ما يدور فيه»
- جيمس جويس
مقدمة
الروائي العظيم يستلهم فنه من نماذج الأعمال العظيمة مثل الإلياذة والأوديسة وألف ليلة وليلة، كما فعل جويس وبروست، ويطور لغته وأسلوبه وتقنياته لكي تتجاوز ما استلهمه ليقدم عملاً فريدًا، وجويس في هذه الرواية تدرج في تطوير «ستيف ديدالوس» بطل قصصه في «أهل دبلن» وروايته الأولى «صورة الفنان في شبابه»، وأضاف إليه «بلوم»، وبلغت ذروتها في «عوليس» التي نحن في صددها، وطوَّرها في آخر أعماله «يقظة فانجان».
تمثل التطور الأسلوبي عند جويس في زمن الرواية (يوم واحد) ولغة حديثه وثرية تنوعت، وأبطال متعددين في مدينة واحدة أو عالم جويس وهي (مدينة دبلن) والتي تشارك البطولة في هذه الرواية.
العودة إلى دبلن وموللي
في الجزء الثالث من رواية عوليس ثلاثة فصول، السادس عشر بعنوان «ريمايوس»، والسابع عشر «إيثاكا» والثامن عشر والأخير «بينلوبي».
يعتبر هذا الجزء الثالث نهاية الرواية، كما في عودة «عوليس» في الأوديسة لهوميروس إلى ايثاكا متنكرًا في ملابس شحاذ، يعود «بلوم وستيفن» إلى كوبري بوت في دبلن.
ريمانوس
يتم اللقاء بين «ستيفن» الفنان العقلاني، و»بلوم» رجل الحواس الخمس المتهم بالتجارة، حيث يقدم بلوم بعض النصائح إلى ستيفن مثل عدم الانغماس بالملذات.
يقول جويس في الفصل السادس عشر «ريمانوس»:
«وفي طريقهما أدلى بلوم الذي كان لا يزال في كامل قواه العقلية، لا أكثر ولا أقل، وكان واعيًا بشكل يثير الاشمئزاز لما حوله، برأيه لصاحبه الصموت الذي، وليس من الضروري أن تؤكد ذلك، لم يكن قد تمالك نفسه كلية بعد سكره حتى الثمالة، بكلمة يحذره فيها من مخاطر حي البغاء في نايت تاون، ومن النساء ذات السمعة السيئة «(طه، موسوعة جويس، ص 583).
العودة إلى ايثاكا (دبلن)
أما الفصل السابغ عشر المسمى «إيثاكا» فيعود «عوليس وابنه تيلماكوس» إلى زوجته وابنه وبيته، بينما نجد بلوم يرافق ستيفن إلى منزله في شارع رقم 7 إكليس. ويتطور أسلوب السرد في هذا الفصل من حيث المنلوج الداخلي وشطحات الفكر والتشويه في الرؤية، وفي المناظر إلى الوصف الموضوعي الدقيق إلى عالم الآلة الحاسبة والعقل الإلكتروني والتعامل مع الإحصاءات.
في هذا الفصل يسترجع بلوم ماضيه، ويدرك في لحظة من اللحظات الكشف المفاجئ شكل الحياة ونسيجها، يقول جويس:
«بأي وسائل؟
من العدم إلى الوجود وأتى الكثيرون وتقبلونه كواحد منهم، كان كوجود مع وجود وآخر كما كان الآخر مع الآخر، ومن الوجود سوف يذهب إلى العدم وسوف ينساه الجميع كأنه لم يكن» (المصدر نفسه، ص 600).
ثم يتذكر بلوم بعض الذكريات عن والده في آخر أيامه وهو يرقد ويقاسي من آلام الأعصاب.
ويروي جويس:
«ما هي ذكرياته عن رودولف بلوم (الفقيد)؟
كان رودولف بلوم (الفقيد) يقص على ابنه ليبولد بلوم (6 سنوات) ما كان يخطط له من ترتيبات للهجرة والاستقرار فيما بين دبلن ولندن وفلورنس وميلان وفينا وبودابست، وما كان يصاحب ذلك من عبارات توحي بالرضا (فقد سعد جده برؤية ماريا تيريزا، (إمبراطورية النمسا)، وملكة هنغاريا» (المصدر نفسه، ص 614).
إيثاكا = بنلوبي
وفي الفصل الثامن عشر والأخير المسمى «بينلوبي» والذي يُعَدُّ أجمل فصول الرواية، حيث تضمن السرد الفني والبوح الجميل المتدفق كالشلال، والمنلوج الداخلي، كما تميز هذا الفصل بعدم وجود علامات التنقيط (مثل النقط والفواصل إلخ..) سرد سلس يتكون من ثماني جمل، وكل جملة تحتوي على نحو 500 كلمة، وهي تمثل انفعالات وأفكار بلوم وزوجته موللي وعامهما الخاص.
يقول جويس في الفقرة الأولى:
«لأنه لم يقم بشيء كهذا من قبل أبداً ليطلب فطوره وهو في سريره مع بيضتين منذ فندق سي آرمز يوم كان يتظاهر في العادة بالمرض بصوت واهن لاعبًا دورًا زوجيًا ليجعل نفسه مهمًا في نظر تلك العجوز» (نياز، يوليسوس، جزء 4، 2015، ص 185).
وفي الفقرة الثانية على لسان موللي يقول جويس:
«وفي هذا الشيء القليل دليل كبير على انتفاخ وجهها بالانفعال حينما سلمتها إنذارًا لمدة أسبوع بترك الخدمة، من الأفضل أن أستغبي عنها، كليهما أنظف الغرف بنفسي أسرع ما عدا الطبخ اللعين ورمي الزبل، وقلت على أي حال أما هي فتترك البيت وأما أنا» (المصدر نفسه، ص 187).
وفي الفقرة الرابعة يحكي جويس:
«هدير القطار في مكان ما يصفر قوة تلك القطار مثل عمالقة ضخمة والماء يتموج حولها ويخرج منها من كل جانب كنهاية أغنية حب محبوبه الرجال المساكين الذين يضطرون البقاء في الخارج طيلة الليل عن زوجاتهم وعوائلهم في تلك القطارات السافعة، كان الجو خانقًا هذا اليوم سعيدة، لأنني أحرقت نصف اعداد صحيفة الفريمان تلك مجلة فوتو بتس يترك أشياء كهذه هنا وهناك، لقد بات مهملاً تمامًا ويرمي بقيتها في المرحاض، سأجعله يقصها لي غدًا بدل أن تكون مرمية هناك للسنة القادمة لأحصل على بعض البنسات من ورائها وأجعله يتساءل أين صحيفة يناير الأخيرة، وكل تلك المعاطف القديمة التي حزمتها من الصالة جاعلة البيت أكثر حرارة منه الآن، كان ذلك المطر جميلاً ومنعشًا بالضبط بعد نومي قبل منتصف الليل ظننت أنها ستكون مثل جبل طارق، ياالله الحرارة هناك قبل أن تهب الريح الشرقية سوداء كالليل ووميض قمة الجبل يقف في وسطها مثل عملاق ضخم بالمقارنة إلى جبل تري روك» (المصدر نفسه، ص 208).
وفي الفقرة الخامسة يسرد جويس على لسان موللي ويقول:
« رسالة ملفي كانت الأولى هذا الصباح حينما كنت في السرير وجلبتها المسز روبيو مع فنجان القهوة تريثت هناك واقفة حينما سألتها أن تناولني وأنا أشير لهم ولم أستطع أن أتذكر الكلمة دبوس الشعر لأفتحها به آه Horquilla امرأة عجوز لا تذعن وهو أمام عينيها في كتلة شعرها المستعار عليها مغرورة بمظهرها الخارجي قبيحة بينما كانت تقترب من الثمانين أو المائة وجهها كتلة من التجاعيد مع كل تدينها متسلطة لأنها لا تستطيع أبداً أن تنسى مجيء الأسطول الأطلنطي نصف سفن العالم والعلم البريطاني يرفرف رغم أن حراسها جميعًا من الإسبان لأن أربعة من الملاحين الإنجليز السكارى استولوا على كل صخرة جبل طارق...»(المصدر نفسه، ص 214).
وفي آخر الفقرة الثامنة من الفصل الثامن عشر يحكي جويس على لسان موللي أهم وأفضل وأجمل عبارة سمعها:
«........ وتلك الليلة التي فاتنا فيها القارب إلى الجزيرة الحارس يدور غير مسلح مع فانوسه وآه ذلك السيل العميق المرعب آه السحر البحر قرمزي في بعض الأحيان مثل النار وغروبات الشمس البهية وأشجار التين في حدائق الالاميدا، نعم وكل الشوارع الصغيرة والبيوت الوردية والزرقاء والصفراء وحدائق الورد والياسمين والجيرانيوم والصبار وجبل طارق حينما كنت شابة صغيرة حيث كنت وردة الجبل نعم عندما وضعت الورد في شعري مثل عادة الفتيات الاندلسيات أو هل سأضع الحمراء نعم وكيف قبلني تحت الحائط المغربي وفكرت أنه حسن كغيره ثم سألته بعيني أن يسألني مرة ثانية نعم وبعد ذلك سألني هل أوافق، نعم لأقول نعم يا وردتي الجبلية، وفي البداية طوقته بذراعي نعم سحبته لي حتى يحس نعم، وكان قلبه يخفق بسرعة مثل مجنون، ونعم قلت نعم سأرضى نعم» (المصدر نفسه، ص 245-246).
قالوا عن عوليس لجويس
الشاعر والناقد االأمريكي عزرا باوند Ezra Pound صديق جيمس جويس قال في عزائه لجويس:
«فقد العالم واحدًا من أروع ضيوفه وصديقًا ورفيقًا يمتلك قدرة عالية على السخرية، وأعتقد أن عمله «عوليس» يمكن اعتبارها واحدًا من أعظم الأعمال التي ابتكرها الخيال الإنساني منذ رواية «الجحش الذهبي» لابوليوس مرورا بـ»غارغانتا» لرابليه و»دون كيخوتي» لسرفانتس و»بوفاري وبيكوشيه «لفولبير» (باور، الغصن الذهبي، 2015 ص 117
وقال عنها الروائي هاشم غرايبة «إن جويس نقل الكتابة من الوصف التعبيري إلى التخيل والتفكير، وجدد في أسلوب السرد. وفصل في حضور المكان والتفاصيل الصغيرة والأمور الداخلية في النفس البشرية».
وترى الروائية شهلا العجيلي: «إن التفاصيل الصغيرة التي تشعر المتلقّي بوجوده هي التي تمنح الرواية ألقها وحيويّتها، وليست القضايا الكبرى التي تحوّل النص إلى ضجيج يحجب الحقيقة، والمتعة معاً. وهذا ما يتميّز به نصّ جيمس جويس، سيّما في رائعته «عوليس».
ترجمة الرواية إلى اللغة العربية
بذل الأكاديمي والمترجم المصري الدكتور طه محمود طه - رحمه الله - جهودًا عظيمة في ترجمة «عوليس» إلى اللغة العربية ترجمة ثرية وشاملة، صدرت عام 1982 عن المركز العربي للبحث والنشر كما ألف طه «موسوعة جيمس جويس» لشرح هذه الرواية، وصدرت عام 1975، عن دار القلم ببيروت، وجامعة الكويت، وقد استفدت منها في هذه الدراسة،
وأعيد إصدار عوليس في طبعة ثانية منقحة عام 1994 عن الدار العربية، وكتب لها طه مقدمة ضافية. يقول د طه عن صعوبة ترجمة عوليس:
«كنت أقف أمام اللفظ الواحد أيامًا عدة، وبعدما أعجز عن العثور عليه في القواميس أعود لأدرك أن جويس قد نحته من لفظين من لغتين مختلفتين، أو أنه جاء به من العامية المستعملة في أزقة دبلن، فكان عليّ أن أترجم اللفظ المنحوت بلفظ عربي منحوت أيضًا. وكنت أشعر أن جويس يقدم لي اللفظ ويقول متحديًا: (انحت مثل هذا إذا استطعت)، ومن هنا جاءت صعوبة الترجمة وصعوبة القراءة التي تحتاج أساسًا إلى ثروة لغوية عربية ضخمة».
كما قام الدكتور صلاح نياز بإعادة ترجمة عوليس وصدرت في أربعة أجزاء، وهي ترجمة احترافية رشيقة ومختزلة، وصدرت بالتسلسل في الأعوام 2001، 2010، 2014، 2015 عن دار المدى للإعلام والثقافة والفنون.
... ... ...
مراجع:
1 - طه محمود طه، موسوعة جيمس جويس، دار القلم، بيروت 1975.
2 - طه محمود طه، عوليس، 1994الدار العربية.
3 - طه محمود طه، عوليس، المركز العربي للبحث والنشر، 1982
4 - نياز، صلاح، يوليسس، جز 4، دار المدى للإعلام والثقافة والفنون، بغداد 2015
5 - نياز، صلاح، يوليسس، جز 1، دار المدى للإعلام والثقافة والفنون، بغداد 2001
6- حنان العتال: A Decrease font size. A Reset font size. A Increase font size.
7 - باور، أرثر، الغصن الذهبي، تر حسونه المصباحي، أزمنة للنشر، عمان، الأردن 2015
8 - طه محممود طه، دائرة معارف ويكبيدبا، https://ar.wikipedia.org/wiki
** **
- ناصر محمد العديلي
Chmq2012@gmail.com