أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: هو (داوود بن علي بن خلف) رحمه الله تعالى؛ وكان مولده في الكوفة سنة مئتين، وقيل سنة اثنين ومئتين، وتوفي سنة سبعين ومئتين عن عمر يناهز ثمانيةً وستين عاماً؛ ومن جملة شيوخه ذوي التأثير في أخذه بالمذهب الظاهري: (إسحاق بن راهويه)، و(أبو ثور) المشهور بزهده؛ وأما من جهة علمه بالقرآن الكريم، والسنة النبوية: فقد وصفوه بأنه من كبار المجتهدين، وخيار المتفقهين، وأعانه الله على ذلك بما منحه إياه من حفظه الحديث، وكونه متميزاً في فهم معنى الحديث، وإدراك دلالته؛ وأما من جهة أخلاقه: فقد وصفه علماء أجلاء عالمون حق العلم بعلو أخلاقه.
قال أبو عبدالرحمن: إن القرن الذي عاش فيه داوود الظاهري: كان حفيلاً بكبار العلماء على الرغم من قلتهم؛ بيد أنهم كانوا رحمة للمسلمين الذين فشا فيهم التقليد عن غير علم ولا بينة ؛ ولأعباء هذه المدة حديث يأتي إن شاء الله تعالى، وحسبي الآن أن أذكر بينابيع العلم عند أبي سليمان داوود بن علي الذي هو أول علماء أهل الظاهر؛ فمن فضائله: أنه تخرج على تلاميذ الإمام الشافعي (ومن الملاحظ أن علماء أهل الظاهر منذ أبي سليمان داوود بن علي بن خلف إلى الإمام أبي محمد علي ابن حزم): قد بدؤوا حياتهم العلمية بالتتلمذ على الإمام (الشافعي)، وتلاميذه، ولقد بين الأستاذ (محمد سعيد حسن بن كمال): أن ترجمة جامع مسائل الإمام (داوود): هو (محمد بن محمد بن حسن بن عمر ابن معروف الشطي الحنبلي) (المولود سنة 1248 -، المتوفى 1307 هجريا/ 1832 - 1890 ميلاديا)؛ وهو رحمه الله تعالى: فرضي، فقيه؛ وكان مولده ووفاته في دمشق.. من كتبه: (الفتح المبين)، وقد طبع، و(رسالة في الفرائض)، و(توفيق المواد النظامية لأحكام الشريعة المحمدية)، وقد طبع، و(تسهيل الأحكام فيما يحتاج إليه الحكام)؛ نيف وألف مادة، و(القواعد الحنبلية في التصرفات العقارية)، وقد طبع، وجمع دفتراً كبيراً في تقسيم مياه دمشق، وبيان أسهمها المترية؛ عن الإعلام لـ(الزركلي) 6/ 193، وكان أعظم أهل الظاهر حباً للشافعي، وسمع الكثير من محدثي عصره، سمع من المقيمين ببغداد، ورحل إلى غيرهم، وإلى نيسابور ليسمع من المحدثين هنالك؛ ولقد كان فصيحاً متكلماً، قوي الحجة، حاضر البديهة، لا يهاب أحداً في إعلان ما يعتقد، وساق الخطيب البغدادي بسنده عن محمد بن الحافظ النيسابوري، قال: قرأت بخط أبي عمرو المستملى.. سمعت داوود بن علي الأصبهاني يرد على إسحاق يعني (ابن راهويه)، وما رأيت أحداً قبله ولا بعده يرد عليه هيبة له.
قال أبو عبدالرحمن: ليت شعري إذا كان الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مضلة، فأين المهداة؟ أفي الاستحسان والرأي يحرم بها في دين الله تعالى ويحلل، وتفرض بها الفرائض، وتسقط بهما الشرائع، وتحدث بها الديانة، ويحكم بها على الله عز وجل؟! إن هذا لهو الضلال المبين.. والله سبحانه وتعالى يقول مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم: بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (سورة النحل/ 44)؛ فلم يجعل الله عز وجل التبين إلا في حديث رسول الله لا في شيء سواه.. وليت شعري من هم الفقهاء إلا أصحاب الحديث، العالمون بصحيحه؛ الذين يدينون به ربهم من السقيم الساقط الذي يعول عليه أصحاب الرأي؛ وأما أصحاب الحديث فهم العالمون بناسخه من منسوخه، وكيف يضم إلى القرآن، وكيف يستعمل جميعه، ويستثنى بعضه من بعض، العالمون بأخبار الصحابة والتابعين من بعدهم، فما نعلم الفقهاء إلا هؤلاء.. وأما من أخذ برأي إنسان واحد لا يعدوه؛ فما يعرف ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ما أجمع عليه العلماء مما اختلفوا فيه؛ فما عرف قط ما هو الفقه، ولا للفقه إليه طريق؛ بل هو خابط خبط عشواء في الدين، راكب مضلة لا يدري حقيقة ما يعتقد من باطله، وإلى لقاء قريب إن شاء الله تعالى، والله المستعان.