أ.د.عثمان بن صالح العامر
الربط بين الأسباب التي جعلها الله في الكون، والطبيعة المسخَّرة لنا ذات السنن المقدرة من الرب الخالق، وبين قدر الله وإرادته الآنية اللحظية المرتكزة على علم الله وحكمته.. إشكالية متجذِّرة في الفكر الإنساني، ولذلك كانت هذه المسألة العقدية الدقيقة وما زالت منزلقاً خطيراً لكل من حاول ويحاول الاستقلال عن الوحي في سبر هذه الأمور الغيبية، والتفكير حولها بعقله المجرّد. تجدّد هذا الأمر هذه الأيام حين الحديث عن السبب الحقيقي الكامن خلف ما هو حادث في الصين من وباء صار هو حدث العالم الأول وسبب هلعه وخوفه وذعره الشديد، إذ في هذا السياق اعتبر البعض من الكتَّاب والمغرِّدين هذا الفايروس القاتل عقوبة من الله - عزَّ وجلَّ - للصينيين جراء قتلهم المسلمين الأويغور وتعذيبهم لهم، وإبادتهم إبادة جماعية بلا خوف ولا رحمة، ولا عبرة أو اعتبار. الأمر الذي استثار البعض الآخر فرد بالنفي المطلق لمثل هذا الاعتقاد الذي لا يعدو أن يكون كما قال هو عنه: (خرافة العقاب الإلهي)، وحاول الثالث التوسط بين القولين مغرِّداً بقوله: (الذي يظهر لي أن العقاب الإلهي ليس خرافة، بل هو حقيقة، لكن الخطأ يكمن في التألي على الله بتحديد مراده أن هذا عقاب أو ذاك ابتلاء، لأن الحكم على الغيب هو الخرافة والمجازفة، نكل أمر الغيب إلى الله).
لم ينتهي الجدل عند هذا القول، بل رد الرابع بحسابه: (إذا لم يكن للعقاب الإلهي محددات تميزه عن غيره من الكوارث الطبيعية - التي لها أسبابها الطبيعية - فلا معني للقول بوجوده). وبعيداً عن كون ما حلَّ بالصين من وباء عقوبة من الرب سبحانه أو أنه بلاء وامتحان لهم، فإن صاحب هذا القول النافي للعقاب الإلهي ومن على شاكلته قد ينزلق بهم قولهم التشكيكي البيِّن إلى الدخول في دائرة (الربوبيون) الذين يعتقدون بأن (هناك إلهاً أسمى خبيراً حكيماً خلق العالم وفق قوانين محكمة ثم انصرف عنه ولم يعد يتدخل فيه). والقارئ في أدبيات الفكر الغربي يعرف أن هذا النهج ليس جديداً في عالم المعتقدات، بل أسهم في ظهوره الفيلسوف الإنجليزي هربربت تشيربوري (1583 - 1648)، وأشهره الفيلسوف الفرنسي فرانسوا ماري آروويه المعروف بـ (فولتير) (1694 - 1778)، الذي كان ينعت بـ(الربوبي النموذجي). وما زال لهذا المعتقد المادي - العقلاني فلاسفته ومفكروه واتباعه الذين يعتقدون بأن هناك خالقاً للكون أودع فيه القوانين وتركه يسير على سننه الجامدة، حتى أضحى آلة ميكانيكية مشحونة بقوانين ثابتة حتمية لا تتغيَّر ولا تتبدل، وهذا المذهب العقدي الذي يجذِّر (للإلحاد الجديد) من خلال هذه الفكرة المحورية في الدين الربوبي مردودة شرعاً وفطرة وعقلاً وعلماً. فالكون كله خلقه الله، وهو ملكه، وما زال ملكه بيده يصرفه كيف يشاء {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}، ولذا مع إحسان الظن بمن قال ما قال مما ورد أعلاه إلا أنه وجب التنبيه إلى هذا الأمر الإيماني المهم لأخذ الحيطة والحذر حين الحديث عن مثل هذه المسائل ذات المساس المباشر بعقيدة الإنسان التي إن كانت عقيدة وسطية سلفية صحيحة مبنية على الدليل - قال الله تعالى وقال رسوله عليه الصلاة والسلام - كانت سبب نجاح في الدنيا وفلاح في الأخرى، ومن تأمل في مثل قول الله عزَّ وجلَّ: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}، علم أن الهلاك قد يكون في تبديل الله عزَّ وجلَّ السنن الكونية وتغيّر القوانين الطبيعية التي أوجدها سبحانه في هذا العالم الفسيح، وأمكنه عقلاً الجمع بين الأسباب الكونية والقاء والقدر الإلهي اللحظي، دمتم بخير وإلى لقاء، والسلام.