د. حمزة السالم
قد تأتي الخبرة عن طريق التجربة فتكون مرتفعة التكلفة، ثم تُستخرج النظرية استخراجًا من تلك التجربة. وقد تأتي المعرفة عن طريق التنظير قبل التطبيق، فتأتي النتائج عكسية وخيمة مدمّرة. لذا فالتدرُّج مطلوب لاختبار تطبيق النظرية المحضة، وفي الاقتصاد الأمريكي أمثلة على ذلك.
فمن الأمثلة: التعلم المُكلف بالتجربة، ما حصل في الفترة الزمنية في العقد 1920م، أُجبرت السياسة الداخلية البريطانيين على تخفيض أسعار الفوائد في السوق النقدية، (ولم يكن الاقتصاد آنذاك علمًا، يكترث السياسيون به فقد كان بسيطًا وتابعًا للسياسة لا قائدًا لها). وبما أن العملات في تلك الحقبة كانت مرتبطة بالذهب، فقد حصلت هجرة للذهب من بريطانيا لأمريكا من أجل تحصيل العوائد المرتفعة في أمريكا. وبما أن علم الاقتصاد النقدي خاصة لم يكن له وجود آنذاك، فبشفاعة من ملك بريطانيا عند الأمريكان، خفض الأمريكان الفائدة، فتوقفت هجرة الذهب من بريطانيا لأمريكا.
وبانخفاض الفائدة في أمريكا، انتعشت سوق الأسهم الأمريكية، فتبعته طفرة استثمارية في الاقتصاد الحقيقي. فشكّلت كثرة النقد وندرة الموارد الطبيعية والبشرية فقاعة تضخمية، دفعت الأمريكان إلى رفع سعر الفائدة فجأة من جديد. صُدم الاقتصاد الأمريكي برفع سعر الفائدة المفاجئ، فأنهار سوق الأسهم وتبعته الاستثمارات الحقيقية وبدأت دورة الانكماش الاقتصادي.
وما إن وصلت الأخبار إلى بريطانيا حتى تدافع الناس على البنوك يسحبون إيداعاتهم من الذهب، فما كان من البريطانيين إلا أنهم فكوا ارتباط الجنيه بالذهب لحماية بنوكها من الإفلاس. وطارت الأخبار إلى أمريكا فتدافع الناس على البنوك يسحبون إيداعاتهم، فانهارت البنوك الأمريكية، وتحوّل الانكماش الاقتصادي إلى ما أصبح يُعرف بالكساد العظيم، حتى بلغت البطالة 25 في المائة وتناقص النمو 50 في المائة. ومن الأمثلة على التعلم بالتجربة، معاهدة برتن وود، التي نصّت على ربط العملات بالدولار وأن يرتبط الدولار بالذهب بسعر 38 دولارًا للأونصة. وخلال الأربعينات والخمسينات أدرك الأمريكان أن الذهب لم يَعُد صالحًا كعملة. فالذهب محدود وإنتاج الآلة أصبح هائلاً مما سيسبب انخفاضًا مستمرًا للأسعار مما يؤدي لتوقف الاستثمارات. وأيضًا الذهب لا عقل له، ويتحكم بأسعار الفائدة والسيولة عن طريق وفرته وندرته.
وكانت فكرة فصل العملات عن الذهب، وتركها تستمد قوّتها من السوق - أسوة بالسلع - من الأساطير العلمية التي تدعمها النظرية والمنطق، ولكنها تخلو من التجربة التطبيقية. والنظرية مهما كانت قوة منطقها، فمن المغامرة تطبيقها بشكل شامل على المجتمعات الإِنسانيات، سواء أكانت النظرية اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية.
ومن هنا بدأت أمريكا خلال الستينات بإدخال السندات الأمريكية تدريجيًا كاحتياطيات نقدية لتحل محل الذهب. وخلال ذلك العقد تسرّبت الأخبار واحتدم الصراع الفكري الاقتصادي حولها، ومن أهم ما كُتب آنذاك مقال (الذهب وحرية الاقتصاد، لقرين سبان عام 1966م). ومن الأمثلة: ما حصل في السبعينات. فقد أخطأ أو تعمّد الفيدرالي الأمريكي ضخ الدولارات لثماني سنوات متواصلة استطاع بها أن يحافظ على مواصلة رفع أسعار البترول، ولو على حساب التضخم الذي وصل مجموعه إلى أكثر من 100 في المائة في تلك الفترة تقريبًا. ولكن الفيدرالي الأمريكي استطاع، بضخ الدولار، أن يُثبت هيبة البترول لجعله غطاء بديلاً عن الذهب للدولار. (حتى إذا ما ثبت الدولار كعملة احتياط دولية انهارت أسعار البترول).
والخلاصة أن الكساد العظيم كان بسبب عدم فهم النظام النقدي، ومنه خرجت النظريات النقدية الحالية. وفك الارتباط عن الذهب كان نظرية علمية خيالية تم تطبيقها بسلاسة خلال عقد من السنين. وقطع البترول جاء كفرصة ذهبية للدولار الأمريكي فاغتنمها ليتغطى به بدلاً عن الذهب إلى حين، فكان تجربة تطبيقية للنظرية النقدية الحديثة.
فالعبرة: ما أكثر التجارب في الأمم المتخلّفة، لو تعلمت منها لتفوقت على الشعوب المتطورة. ولكنها ليس تفتقد فقط إلى التنظير المنطقي، وغياب فن اختبار التنظير، بل هي تُضيعها من البداية، بعدم الاعتراف بأخطائها، إلا على وجه التهكم والتنقيص من السابقين.