د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** لم نعد نقرأُ، أو لنقل: لم نعدْ قادرين على احتمال ثِقلِ القراءة التأصيلية الموحيةِ بالتفكير بعدما اجتذبتنا القراءةُ التفصيلية المهتمة بالهوامش، والفارق بين القراءة التأصيليةِ والتفصيلية كالفارق بين الثقافة الأصلية والفرعية، وبهما يَميزُ الذهن الحاكم من الذهن الحالم، وتبدو منهما المسافة بين الذُّرى والثَّرى، وإذ تنتصرُ الشعبويةُ للتفصيل والفروع والنخبويةُ للأصل والتأصيل فلا تقاربَ بين حجم التأثير لفريقين غير متكافئين؛ فالكمُّ له سَطوتُه وسُلطتُه، كما للكيف بقاؤُه ورَواؤُه.
** والسؤال الأولُ أو الأَولى: أين هو التأصيل؟ ولماذا ينتصر التفصيل؟ ولا بأس إن جاءت الإجابةُ غائمةً؛ فالناس تألفُ السائدَ والعاديَّ فتتوفر مصادرُها ويأنسُ مُصْدروها، ولن يأسَوا على مصادرة سواها، ولو أُلغيت محاضرةٌ جادةٌ أو حُجب حضورٌ نوعي لما أبِه بهما أحد، ولو تغير توقيتُ مباراة أو بُدل مكانُها لعزفت الأرضُ لحنَ الاستياء، وحكى وزيرُ الإعلام السعودي الأسبق علي الشاعر 1352- 1440هـ أنه مَنع بثَّ «المصارعة الحرة»-أول عهده بالوزارة- فضجَّ مكتبُه بالاتصالات والاعتراضات، واضطُرَّ لنقض قراره في اليوم التالي.
** عندما لا يألفُ النشءُ القراءة «التكوينية» فقد يألفُ القراءة «التلوينية» لتصبحَ معظم الإصدارات لاهثةً لاهيةً، وحين يعزُّ البناءُ الفكريُّ ينصرفُ المعنيون عن معالجته أو حتى التأمل في مظاهره، وربما التفتت إليه ثلةٌ لا وزنَ لها في العقل الجمعيّ.
** استدنى صاحبُكم من مكتبته كتاب القاضي عبدالرحمن بن أحمد الإيجي 680 - 756هـ (المواقف من علم الكلام) للاستزادة من موضوعات عَقديةٍ تمسُّ جدلياتٍ نقلية وعقلية، وأيقن أن شبابنا- في مراحلهم التعليمية الأُولى- محرومون من التأصيل التراثيِّ والمعاصر، كما هم -في مراحلهم المتقدمة- مُتخمون بالتفصيل المتناثر، ويكفي الطُّلعةَ فيهم ما يراه رموزُهم عبر كتيباتٍ خجلى وتغريداتٍ عجلى، ووجد في مقدمة كتاب عالم القرن الثامن الهجري القاضي الإيجي تحليلًا موازيًا عن المؤلفين والتآليف؛ « ... فمختصراتُها قاصرة ومطولاتها مُسْئِمة، ومن المصنّفين مَن غرضُه نقلُ المذاهب والأقوال وتكثيرُ السؤال والجواب، ومنهم من يُلفق مَغالط لترويج رأيه، ومنهم من يكبِّر حجم الكتاب بالبسط والتكرار ليُظن به أنه بحر زخَّار، ومنهم من هو كحاطب ليلٍ وجالب رجلٍ وخيلٍ ينقل نقلًا ولا يستعمل عقلًا ليعرف: أغثٌ ما أخذه أم ثمين، وسخيفٌ ما ألقاه أم متين ....الخ «، وقد عدّد أوضاعَهم وكأنه يواجهُنا بمعضلةٍ أزليةٍ لم ينجُ منها سابقٌ أو لاحق؛ فما أشبه الليلة بالبارحة.
** سيبقى لكلِّ مرحلة نائحوها، وقد يعني وجودُهم محاولةً غيرَ يائسةٍ لتعديل مسار؛ فإن لم يصل صوتُهم فليظلّ صداهم، كما لها محاموها القانعون بالحال المطمئنون إلى المآل، أما صبية اليوم -إن لم يُتداركُوا- فسيُخلّفون صبيةً مثلَهم أو أدنى منهم، فلمن رضي بالواقع أن ينام، ولغيرهم أن يُرضوا ضمائرهم ولو انفضَّ سامرُهم بالدفاع عن ثقافة الأصل وتثقيف التكوين.
** الثقافة ليست ترفا.