اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
مما لا يختلف عليه اثنان أن الإنسان السوي يحب المدح وتستهويه عبارات الثناء والتمجيد، ويحرص جاهداً على حسن الذكر، والذكر الحسن لا يمكن الحصول عليه إلا بمقابل, وهذا المقابل يتطلب فعل الخير والبعد عن النقائص وتأدية الحقوق وعمل كل ما يعود على المرء بالثناء والسمعة الطيبة, وقد قيل: الذكر الحسن عطر الأعمال الحسنة, والشكر نسيم النعم والتطلع إلى الثناء والرغبة في المدح من الأمور التي جُبل عليها الإنسان واستحكم عليها طبعه, ودائماً تتوق إليها نفسه، ولكن لا بد من دفع الثمن جهداً مبرورًا وعملاً مأجورًا، بحيث يكون هذا المدح ثمرة لجهود خيرة وأعمال مثمرة وقد قال الشاعر:
يهوى الثناء مبرز ومقصر
حب الثناء طبيعة الإنسان
والمدح إذا لم يكن زوراً فهو مطلوب لمنْ يستحقه والناس شهود لله في أرضه، وقد مُدح الرسول صلى الله عليه وسلم نثراً وشعراً، ولم ينكر ذلك، ولكنه كان يكره الإطراء، وكان يقال فيه الشعر ويصوِّب ما يسمع منه من خطأ كما في بيت من الشعر لكعب بن زهير واستبدال السيف بالنور في الشطر الأول من البيت.
والمدح في موقعه هو وصف للممدوح بما يستحق من الصفات الجميلة، والإقرار بها له، وإخباره أن المادح قد أدركها وأوجبها له، الأمر الذي يدفع الممدوح إلى مضاعفة الجهود، كما يوفر الأرضية الخصبة للزيادة من الخير، وبالتالي استحكام المعرفة لجلب المودة في بيئة يسودها الإنصاف والوفاء بالحقوق من قبل المادح الذي يَحْسُن مدحه بحسب سمو قصده وأغراضه ومدى صدقه واستصلاحه للممدوح عن طريق التنبيه على مكامن الفضل ومواطن الخير، وحث الموصوف والمستمع على الازدياد من الفضائل والاجتهاد في تحصيلها والأخذ بالأسباب والوسائل الموصلة إليها.
وانطلاقًا من أن لكل مقام مقالاً، ولكل موقف ما يناسبه، فإن للثناء مواطن يستحسن فيها وحالات ومواقف تدعو إليه لما يترتب على ذلك من مصلحة عامة كما هو الحال بالنسبة للثناء على رموز الدولة وذكر إنجازاتهم سواءً عبر وسائل الإعلام أو عن طريق الخطب المنبرية، حيث يندرج ذلك في إطار المدح في حالته الصحيحة وطبيعته المريحة، بوصف هذا المدح ضرباً من شكر النعمة والاعتراف بالفضل لأهله، علاوة على أنه قد يكون ثمة رابط بين هذا المدح وبين تمجيد الوطن وصدق الانتماء إليه والولاء له بالإضافة إلى ما يعينه ذلك من الحث على الوطنية وواجب المواطن تجاه الوطن.
وتوجد هناك ضوابط دينية ومبادئ دنيوية ومقاييس أخلاقية تتحكم في المدح وتوجه مساره، مضيفةً عليه طابع المصداقية، ومعطيةً إياه مفهومه الصحيح، حيث إن المدح المطلوب في حقيقته هو ما كان نتيجة لفعل ممدوح ووسائل مشروعه وقد قيل شعراً:
إذا المرء لم يمدحه حسنُ فعاله
فمادحه يهذي وإن كان مفصحاً
ويكفي الممدوح أنه جعل للمادح سبيلاً إلى المدح، فلا يلهث وراء هذا المدح، بل يغلفه بغلاف المروءة والاحتساب، ذلك الغلاف الذي يتطلب منه البعد عن كل ما يقلل من استحقاقه للمدح، مُحيِّياً فعله الجميل بعدم ذكره، ومعظماً إياه بتصغيره، أما المادح فمطلوب منه أن يضع المدح في إطاره المقبول والمعقول شرعاً وعرفاً، وأن يصونه عن مَنْ لا يستحقه ويحفظ ماء وجهه بالقناعة بعيداً عن ممارسات التملق والتزلف والنفاق التي ينزلق إليها بعض المادحين.
ومما يدل على قيمة المدح وأنه مطلب لكل رجل كريم ما قيل عن الأحنف بن قيس إنه نصح رجلاً ذا سمعة سيئة طالباً منه أن يُحسِّن سيرته ويرفع من مستوى سلوكه ليكسب المدح بدلاً من الذم، فقال هذا المنصوح إنني لا آبه بالمدح أو الذم، فقال له الأحنف: لقد أرحت نفسك مما أتعب الكرام والذي لا يفكر في المدح ولا يطمح إلى كسب المحامد لا خير فيه، إذا إن منْ عدم الذكر الحسن فهو خامل الذكر، وما بعد خمول الذكر إلا الذكر السيئ.
وفي هذا الزمن الذي فقد فيه المدح شيئاً من مصداقيته وتشوهت صورته وتحولت بعض حالاته غير المألوفة إلى ظاهرة يمارسها الكثير، إما طلباً للشهرة أو طلباً للثروة، حيث جعل البعض المدح هدفاً، بدلاً من أن يكون نتيجة إلى درجة ينفر منها طبع أصحاب المروءة ويزيد استياؤهم مما يحدث على مسرح الحياة الاجتماعية، بحيث نحا المدح منحىً مغايراً لمعايير استحقاقه وأصبح الممدوح يتملق مادحه حتى بلغ ذلك حداً انعكس فيه المفهوم واختل التوازن.
وفي ظل هذا الوضع لا بد من الاعتراف بأن ثمة ظاهرة متفشية في المجتمع وهي ظاهرة التمادح، وتهالك البعض على المدح إلى الحد الذي وصل بهؤلاء إلى تزكية النفس، وطلب تزكيتها من الغير، وهذا النوع من المدح يكون قدحاً لأنه غالباً ما يفتقر إلى مبررات قبوله، نظراً لأن معطياته مشكوك في صحتها، ومقاييس استحقاقه فاقدة قيمتها ووسائله غير مشروعة وسمات الشكر منه منزوعة.
وسادة المجتمع وعلية القوم والقوى المؤثرة في البلد صاروا أكثر عزوفاً وترفعاً عن هذه الممارسات وأقرب إلى الواقعية في حين تجاوزت الدهماء حدودها وكسرت قيودها تطرد خلف أوهام المدح الخائب والثناء الكاذب, ومنْ مُدح بما ليس فيه فهو كمن يهجى, وبقدر ما يوصف الممدوح بمناقب كاذبة بقدر ما يدل ذلك على مثالب غائبة والتذكير بما فيه من معائب, وقد ورد في الحديث الشريف (إياكم والتمادح فإنه الذبح) وقد قيل: كفى جهلاً أن يمدح المادح بخلاف ما يعرف الممدوح من نفسه, وقال علي بن الحسين : لا يقول رجل في رجل من الخير ما لا يعلم إلا أوشك أن يقول فيه من الشر ما لا يعلم, وكما قال الشاعر:
إذا أثنى عليَّ المرء يوماً
بخير ليس فيَّ فذاك هاجِ
وحقي أن أساءَ بما افتراه
فلؤم من غريزتيَ ابتهاجي
ومدح غير الممدوح وإحلاله في محل لا يستحقه يدور ذلك في فلك الحالات التي يتحول فيها المدح قدحاً، حيث إن الذي يتجاوز حده ينقلب إلى ضده، فما بالك إذا ما غاب السبب وانعدم المبرر اللذان ينطلق منهما المدح، وسيطر تزلف المنتفع وغرور الجاهل على الموقف والمادح والممدوح بين المؤثر والأثر، والمجهول والمعلوم، والمدح أصبح غاية في ذاته بدلاً من أن يكون نتيجة، وعدم مشروعية الوسائل إليه تسلبه معناه، وتخرجه عن مفهومه، بما يبعده عن دائرة المعقول والمقبول، ويجعله مغرقاً في الذم.
وقد نهى الله جل ذكره عن تزكية الإنسان نفسه فقال تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}، والرسول صلى الله عليه وسلم كره أن يزكي الإنسان نفسه بالاسم كما حصل مع زينب بنت أبي سلمة وكان اسمها برّه وإذا كان هذا حال تزكية النفس بالاسم فكيف بمدحها ووصفها بصفات قد تكون كاذبة، والقول عنها إن لها مآثر ومحاسن.
وجدير بالمرء أن يكون تطلعه إلى المدح هو الذي يدفعه إلى بذل الأسباب المشروعة والحصول على المبررات الصحيحة التي يترتب عليها استحقاقه للذكر الحسن دون أن ينزل إلى درك تزكية النفس ومدحها، إذ إن مدح النفس يعد مرفوضاً حتى لو كان مادح نفسه صادقاً، وقد سأل معاوية رجلاً قائلاً له مَنْ سيد قومك؟ قال: أنا، قال له معاوية: لو كنت كذلك لم تقل، وقد قيل: ذم الرجل نفسه في العلانية مدح لها في السر، وكان يقال: من أظهر عيب نفسه فقد زكاها والصدق مطلوب في كل شيء إلا أن يمدح الرجل نفسه، فذلك مردود عليه وقد قال الشاعر:
فما حسنً أن يمدح المرء نفسه
ولكنَّ أخلاقاً تذم ومدحُ
والمفاخرة لها حدودها وقيودها والحد المقبول منها هو الذي يكون صادقاً، ومحكوماً بالاعتدال والوسطية، وله ما يبرره، كأن يكون لدحض ذماً ظالماً أو توضيح حقيقة تفيد في الدنيا ولا تتعارض مع الدين، وطلب المدح من الغير أشنع من مدح النفس، وفيه ما يدل على ضعف عقل الرجل الذي يطلبه وخروجه عن محيط الحياء، واستمرأ هذا التصرف المشين والممقوت يقود إلى استحسان النفاق والدعوة إليه، والسعي وراء المدح الكاذب يؤصل صفة الكذب وينميها، ويحول دون إصلاح الذات ويضع على عيون أصحابه غشاوة وعلى قلوبهم أكنة، لا تسمح لهم بقبول النقد والانصياع لما تدعو إليه القيم والمثل.
والعامل المادي هو المسيطر على عقليات هؤلاء القوم، وهو المحرك الأول للتفاخر والتمادح، وعلى أساسه يكون التفاضل بينهم، ويتجسد هذا التفاضل في حب المظاهر واستقطاب المداحين، ومنْ يدفع أكثر يمدح أكثر، دون النظر إلى معطيات المدح ومؤهلات الممدوح ومعايير استحقاق هذا المدح، ولو قيست الأمور بمقياس الكرم الفطري والبذل الطبعي لانطبق على أكثرهم قول الشاعر:
لا خير فيمنْ كان خيرُ ثنائه
في الناس قولهم غني واجد
وهناك من الأخيار منْ هم أهل للمدح، والعيب ليس في مدحهم بل في الطريقة والكيفية التي يتم بها المدح والموجة التي يركبونها، والأجدر بهؤلاء أن ينأوا بأنفسهم عن التقليد الأعمى والانسياق وراء بريق الدعاية والإرجاف، والانخداع بالمظاهر التي ضررها أكثر من نفعها والنظر إلى الأمور من منظور العقلاء وصفوة المجتمع، وليس من وجهة نظر السذج والسفهاء ودونية الناس.
والأثرة والنزعة الفردية والنظرة المادية ما سيطرت على أمة إلا جلبت لها المصائب وحجبت عنها الرأي الصائب، وحب المدح والإغراق في التمادح ما هو إلا نتيجة لهذه العوامل، وما يدور في فلكها من طموحات جامحة وتطلعات شاطحة وما يرتبط بها من تحاسد وتنافس سلبي، ومع المداومة والاعتياد نجم عن هذه التراكمات مركبات نقص قادت إلى ما قادت إليه بما في ذلك المدح المفضي إلا القدح والذبح.
وشيوع المدح بين الناس على هذا النحو غير المقيد يهلك الأمم ويحجب عنها رشدها ويصرفها عن نقد واقعها واكتشاف عيوبها، وتصويب أخطائها والتحسب لما يدور حولها ويواجهها من تحديات ويحدق بها من مخاطر، علاوة على ما ينجم عن ذلك من ازدهار بيئة النفاق والنيل من مكارم الأخلاق.