عبدالعزيز السماري
فقدت الكلمة أصواتها ومعانيها، ولم يعد لها تأثير يُذكر على الإنسان، ولو كان بسيطًا؛ فقد اجتاحت الأفعال مساحات التفكير، وأصبحت مقولة لكل فعل ردة فعل تسود العقول، وتهيمن على الأجواء، وقد قالها أبو تمام منذ قرون «السيف أصدق إنباء من الكتب»، ثم جاءت وسائل التواصل الاجتماعي لتقضي على الكلمة في آخر مواقعها في الصحف والكتب، بعدما انتصرت ثقافة الفعل وردة الفعل في المساحات الافتراضية..
كتب التاريخ فعليًّا أولئك الذين لم يقرؤوا كتابًا في حياتهم، وذلك عندما قرروا اجتياح أحلام الآخرين واحتلال أراضيهم، ورفع الأعلام فوق أعلى جبالهم. ولو قرؤوا الكتب لربما قلّت عندهم نزعة العنف ضد الآخر؛ ولهذا السبب لم يكن للكلمة المنزوعة من الأغراض أي دور فيما مَرّ على العالم من كوارث، بل كانت مغامرات رجال في رحلة البحث عن نشوة النصر..
لم يشارك فيلسوف أو مفكر في أعمال شغب أو حروب أهلية في التاريخ، ودومًا ما يموت، ويغيب، ثم يتذكر الناس ما كتبه بعد عقود. وعادة كان تأثير الكلمة أقوى إن ألبسوها خطابًا مقدسًا، وجعلوا منها حمالة للأيديولوجيا المتشددة من أي اتجاه..
لم يخرج العراقيون إلى الشارع بسبب كلمات قيلت على صفحات جريدة، ولكنهم ثاروا بسبب أفعال وفساد الحكم الطائفي، وهيمنة الجار الفارسي على أجواء العراق. وما زالت ميادين العراق تضج بأفعال المتظاهرين، ولن يعودوا إلى بيوتهم إلا عندما تخرج الحكومة من عباءة الأحزاب الطائفية.
هناك ظاهرة مثيرة للانتباه في هذا العصر، هي عندما يتم تغييب المفكرين والنخب يستلم الشارع القيادة، وكان ذلك جليًّا في تجربة الاتحاد السوفييتي، وفي بعض التجارب العربية مثل العراق وليبيا؛ فالطرح الهادئ والفكري غير المنزه يفتح آفاقًا أوسع للتفكير، ويجعل من الإنسان أكثر حكمة وتوازنًا، وأقل اندفاعًا..
أدرك الغرب الليبرالي هذه المتلازمة؛ ففتح الباب لحرية الرأي المقيدة بالقانون، وجعل للكلمة النخبوية مساحات؛ وذلك لتقوم بدور ردة الفعل قبل الشارع، وتستلم زمام المبادرة من الرعاع؛ وهو ما يفسر حالة الهدوء في تلك الدول، وغياب العنف عن الساحات، ولو حدث شيء من هذا لا يؤدي عادة إلى كوارث مثل بقية العالم..
تُسهم عادة الكلمة النخبوية في رفع سقف السلم الاجتماعي، وتدعو إلى استخدام الطرح العقلاني للرأي. كذلك تفتح أبوابًا مؤصدة للحوار غير المباشر بين العقول، وتدعو إلى انتصار ملكة التفكير والتأمل؛ ولذلك لا يمكن أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي بديلاً عنها، التي تغلب عليها اللاعقلانية والعواطف والاندفاع والتحزب والمناصرة الإلكترونية..
لهذه الأسباب لا لإقصاء الكلمات؛ فهي بناء متكامل، يبدأ من الأسس الوطنية والثوابت، ويرتفع إلى شموخ المعاني بهدوء وبدون ضوضاء، بينما تفتقر الشوارد الجامحة في عالم المجهول للمعاني، وتتصرف مثل الرصاص الطائش الذي قد يصيب العقول في مقتل.