د. محمد عبدالله العوين
في ضحى يوم من عام 1404هـ دخلت على مكتب رئيس التحرير الأستاذ خالد المالك لأقدم له مواد ملحق (المساء الثقافي) الذي يصدر كل يوم سبت ضمن صفحات جريدة المسائية لأنني كنت على وشك السفر منتدبا من قبل إذاعة الرياض لتغطية زيارة الملك فهد بن عبد العزيز - رحمه الله - إلى المنطقة الشرقية، كان (أبو بشار) غارقا في أوراق بين يديه حتى شككت أنه لم يعلم بدخولي على مكتبه إلا بعد أن رفعت صوتي محييا، وكأنما أتيت في الوقت المناسب قدم لي قصيدة بخط اليد وقال إقرأها جيدا واكتب لها مقدمة، هذه قصيدة جديدة للدكتور غازي القصيبي لابد أن نحتفي بها وننشرها على صفحة كاملة كالمعتاد مع مقدمة نثرية تعبر عن مضامينها. قلت: أبشر. أخذت القصيدة، وفي الطريق إلى مكتبي استعدت احتفاء الجزيرة بقصائد غازي التي تعود القراء أن يروها منشورة بإخراج متميز على صفحة كاملة مرفقة بصورة الشاعر الكبير.
وتداعت إلى مخيلتي تلك الصور الرومانسية التي تعود الشاعر على إبداعها في جل قصائده وتكاد تكون فضاءه الواسع الذي يحلق فيه (الموانئ السود) أو (نهر من الدم) أو (وحي الأربعين).
غازي هنا ليس غازي هناك، هذه قصيدة عتاب رقيق، أو بوح شجي لحبيب، أو إفضاء و (تشره) أو اعتذار عن تكليف، أو طلب إعفاء، أو رغبة مخلصة في كشف ما يجب أن يتنبه له من يعنيه في خطابه.
وعنوان قصيدته رمزية لا تخفى على من له ذائقة أدبية رفيعة وحس تاريخي يقظ (رسالة المتنبي الأخيرة إلى سيف الدولة).
قرأت القصيدة مرة ومرتين وثلاثا، بل أنشدتها وكأنني في مجلس سيف الدولة الحمداني عام 345هـ متنبي ذلك الزمان يقول كلمته الأخيرة لسيف الدولة هذا العصر، وهنا وقعت في حيرة، كيف أفسر المفسر وأشرح المشروح ؟!
إنها قصيدة رمزية تتقافز بين صورها الفخمة فروسية نفس عزيزة محبة يعز عليها العتاب قبل الوداع.
بيني وبينك ألف واش
فعلام أسهب في الغناء وأطنب
لم أجرؤ على نثر المعاني المنثورة بسخاء في معمار القصيدة المكون من خمسة وعشرين بيتا، بل رأيت أن التقديم لقصيدة يصدح كل حرف فيها بحرقة معانيها إثقال لا داعي له؛ فآثرت الاعتذار، وعدت بها إلى رئيس التحرير متعللا بقرب موعد سفري إلى الشرقية. قال: من الموجود الآن؟ قلت: راشد الحمدان. فأخذ ورقة صغيرة وكتب عليها توجيها للأستاذ راشد بكتابة مقدمة لها، وهو ما تم -كما علمت- بعد أن أجرى الأستاذ خالد بخط يده تعديلاً على ما كتبه الأستاذ راشد مقدمة لها.
نشرت (الجزيرة) القصيدة في حلة زاهية كالمعتاد يوم الثلاثاء وكان غازي حينها وزيرا للصحة بينما كان في طريقه لعمله، وفي يوم الخميس تمت إقالته من منصبه، وتبعه رئيس التحرير، ولكن غازي عين لاحقا سفيرا في البحرين ثم في لندن ثم وزيرا للمياه والكهرباء، ثم العمل، وعاد الأستاذ خالد رئيسا لتحرير الجزيرة ثانية عام 1419هـ بعد غيبة أربعة عشر عاما عنها.