د.سالم الكتبي
لاشك أن أحد أهم مسببات الفوضى والتوتر الإقليمي ترتبط بالسلوك السياسي الذي ينتهجه نظام الملالي الإيراني منذ عام 1979، والمسألة هنا لا تعبر عن رأي أو تقدير شخصي، بل هي نتاج أيّ تحليل موضوع لما يجري على الساحة الشرق أوسطية في العقود والسنوات الأخيرة؛ فحالة الانفلات السلوكي والسياسي وعدم الالتزام بقواعد ومبادئ القانون الدولي التي يعيشها النظام الإيراني هي السبب فيما نراه حالياً من انتشار غير مسبوق للفتن والصراعات الطائفية وانهيار الدولة الوطنية لمصلحة الميلشيات في منطقتنا العربية.
من يجادل بغير ذلك عليه أن يستحضر واقعة واحدة من التاريخ الحديث تباهت فيها دولة ما باحتلال عواصم أربع دول أخرى ذات سيادة وأعضاء بمنظمة الأمم المتحدة؟!.. فهذا بالضبط ما فعله الملالي في السنوات الأخيرة وخرج قادتهم للتباهي به إعلامياً واستحضار نفوذهم في هذه العواصم العربية والتبشير باحتلال عاصمة عربية خامسة للبرهنة على حجم التمدد الإستراتيجي الإيراني القائم على مخطط توسعي طائفي لا يمكن إنكاره.
التدخلات الإيراني في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفي شئون دول عربية أخرى معروفة للجميع وليست سراً، وبالتالي فإن أيّ نقاش حول ما تعانيه العلاقات العربية الإيرانية يجب أن يبدأ من تشخيص المشكلة بدقة والاعتراف بها من جانب المتسبب فيها، كي يمكن البحث عن حلول ومخارج لهذه المعضلة، وعدا ذلك يصبح الحديث الإيراني المتكرر بين الفينة والأخرى عن «الرغبة» في إقامة علاقات طبيعية مع جوارها الخليجي بمنزلة خداع إستراتيجي ومخاتلة لا يحتملها المشهد الإقليمي الراهن المليء بعوامل الفوضى والتوتر والتهديدات الناجمة في مجملها عن سلوكيات نظام لم يثبت يوماً أيّ رغبة في التعايش السلمي والالتزام بمبادئ حسن الجوار واحترام سيادة الدول الأخرى.
عندما يقول عادل الجبير وزير الدولة للشئون الخارجية بالمملكة العربية السعودية أن الخطأ لدى السلطات الإيرانية مزدوج، مطالباً طهران بتغيير سلوكها.. ومشيراً إلى تضمين الدستور الإيراني مبادئ تنص على تصدير الثورة، فإن هذا الحديث يشخص أساس المعضلة القائمة في منطقتنا، والتي تتمثل بقناعات وتوجهات وأيديولوجية النظام الإيراني، وهي أيديولوجية قائمة على العنف والتهديد ونشر الفوضى واستخدام القوة الخشنة في نشر مبادئ ثورة الخميني.
الحقيقة التي يجب الاعتراف بها أن شعارات نظام الملالي في الدفاع عن المظلومين وتحرير القدس والقضية الفلسطينية وغير ذلك ليست سوى عناوين دعائية عريضة لكسب تعاطف البسطاء وتوفير مظلة لأتباع المرشد الإيراني الأعلى ومريديه لجذب الأتباع في دولهم، فالواقع يشهد أن النظام الإيراني قد تسبب في نشر الفوضى وتفكيك دول عربية ونشر الصراعات والأزمات الطائفية بها ما جعل هذه الدول ساحة مستباحة يحاول الملالي «هندستها» ديموجرافياً لأسباب وعوامل تاريخية تتعلق بالطموح القومي الفارسي والأحقاد التاريخية التي يكنها الملالي ضد العرب، ولا علاقة لذلك كله بالقدس وتحرير فلسطين ولا الدفاع عن المظلومين وغير ذلك من شعارات لا تزال تداعب خيالات البعض وتنشرها الكتائب الإعلامية الإلكترونية الموالية لإيران في المنطقة العربية.
والملاحظ أن الحديث عن استعداد النظام الإيراني للحوار مع المملكة العربية السعودية والجوار الخليجي يطفو على سطح الأحداث كلما اشتد طوق الحصار حول رقبة نظام الملالي، ثم لا يلبث أن يختفي تماماً ويتلاشي بمجرد ظهور مؤشرات انفراجة في علاقات الملالي مع الولايات المتحدة تحديداً.
الشاهد هنا أن الملالي يعلنون الرغبة في الحوار حين تضيق بهم السبل ويسعون إلى تحييد الجوار الخليجي في أيّ صراع حاد مع الغرب، وهذه المسألة باتت لعبة مكشوفة وممجوجة، ولا تعبر عن أيّ نوايا صافية ولا إرادة حقيقة للتعايش الطبيعي بين نظام الملالي ودول الجوار.
ويشير أيّ تحليل واقعي إلى صعوبة تخلي الملالي في الظروف الراهنة عن مخططاتهم التي باتت جزءاً لا يتجزأ من بنية النظام، الذي لا يمتلك في حقيقة الأمر مشروعاً تنموياً قادراً على منح الشعب الإيراني قليلاً مما يستحق من أسباب الحياة والاستفادة بموارده الكبيرة من النفط والغاز، فقد اختار الملالي منذ البداية توجيه طاقات هذا البلد الكبير نحو تنفيذ مخطط طائفي توسعي عبثي، وانفقوا مليارات الدولارات على الميلشيات الطائفية المتفشية في الجسد العربي، لخوض الصراعات والحروب بالوكالة وانتهاج ما يعرف بالإدارة بالأزمات، فلا يكاد الملالي يخرجون من أزمة حتى يبحثوا عن أخرى لأن انتهاء الأزمات يعني ببساطة التفاف الشعب الإيراني إلى واقعه ومساءلة قادة هذا النظام عن مصير الموارد الهائلة التي تتمتع بها البلاد.
ولهذا لا أظن أن الملالي قادرون على تغيير بوصلتهم السياسية والتخلي عن التثوير السياسي والعسكري واللجوء إلى العقلانية والرشادة السياسية تحقيقاً لمصلحة ملايين الإيرانيين، وكل ما يعلن عن الرغبة في الحوار وغير ذلك ليس سوى تعبير مرحلي مؤقت عن تفاقم حصار العقوبات التي يعانيها النظام، ثم لا يلبث أن يلعق أي وعود أي توجهات له في هذا الشأن بمجرد ظهور أي بوادر انفراج في علاقاته مع الولايات المتحدة بشكل خاص والغرب بشكل عام.
هل يعني ذلك فقدان الأمل تماماً في بناء علاقات طبيعية مع الملالي؟.. الحقيقة أن دول مجلس التعاون بما حققت على صعيد التنمية وبما تمتلك من طموحات تنموية مستقبلية لديها ما يكفي من الدوافع والمبررات لمواصلة البحث عن سبل للتعايش مع النظام الإيراني، وهذا ما تفعله هذه الدول بالفعل طيلة الوقت، ولكن يبقى على الجانب الآخر أن يكف الملالي عن السلوك الذي أثبت فشله طيلة سنوات طويلة مضت، ويدركون متغيرات الواقع الإقليمي والدولي، ويعلمون لمصلحة شعبهم وأجيالهم المقبلة التي لن تغفر لهم تقصيرهم في حق الملايين من الطامحين في حياة تتناسب مع موارد وقدرات بلادهم، وبالتالي فإن الكرة تبقى في ملعب الملالي، الذين يجب أن يثبتوا حسن نوايا بالفعل والسلوك لا بالكلام المنمق والحديث المزدوج، الذي يراوح دوماً بين الوعد والوعيد.