د. حسن بن فهد الهويمل
(نَظَرِيَّةُ المعرفة) عند مشاهير العلماء وأصول المذاهب تعني نظرية التلقي، أي مناهج، وآليات الفهم للنص المقروء.
القراءة - أي قراءة - قلَّ أن تكون بريئة. بمعنى أنها تبحث عن الحق المجرد من كل انتماء.
هناك (نسق ثقافي) تَشَكَّل في ظل قراءات، وقناعات سابقة. وهو المسيطر على لحظة التلقي، والموجِّه لها. كثير من القراء مبرمجون. تثير القراءة كوامنهم، ولا تغيّر قناعاتهم، بل تكرسها.
{ إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُون}.
الأجواء الفكرية التي يعيش فيها المتلقي هي التي تشكِّل الوعي، وهي التي تتحكم في توجيه الفهم.
(المصلحون) وحدهم - الذين بشَّر بهم الرسول صلى الله عليه وسلم - الذين يجددون (نظرية التلقي)، ويتخلصون من أجوائهم الفكرية، وعقدة الأبوية المستحكمة، والمتحكمة، ويعتمدون البحث عن الحق، لا عن الانتصار، وتكريس الذات، ومن ثم ينفون عن (الوَحْيَيْن) التحريف، والتأويل، والتكذيب، ويعيدون للنص نقاءه، وصفاءه، ومن ثم يحققون المأمور به:- {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ}.
ما يجري من تعطيل، وتأويل، وتحريف، وغلو، وتفريط، وتكذيب في عالم الدِّين، يجري هو الآخر في سائر العوالم: السياسية، والاجتماعية.
إذاً أخطر شيء (نَظَرِيَّةُ التَّلَقِّي)؛ لأنها تعتمد على الفهم المحكوم بالنسق.
(الوَحْيان): الكتاب، والسنة كالمطر، ينزل من السماء عذباً نقياً لا شائبة فيه، والعقول تتلقاه كما تتلقى الأرض القَطْر، فيأخذ من لونها، وطعمها، ورائحتها، ثم تكون له مستقرات متعددة، منها النافع، ومنها الضار.
ولهذا أصبح الاختلاف حتماً؛ فاختلاف الأفهام كاختلاف البقاع:- {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}.
فالأمة لمَّا تزل في اختلاف. والاختلاف مقبول إذا احتمله النص، وأحسنت الأمة إدارته. وغير مقبول إذا حُرِّفَ الكلمُ مِن بعد مواضعه، وظهر عواره.
ليست الإشكالية في تعددية المفاهيم؛ لأنها ظاهرة صحية، ولكنها في تناقضها الصارخ، ومخالفتها لمقتضيات النصوص، ومقاصد الشرع، واعتماد الإقصاء، ومصادرة الحقوق.
مشاكل الأمة في إدارة الاختلاف، لا في الاختلاف.
خلود النص التشريعي في تعدد الدلالات، وتناسلها، واستيعابها للنوازل والاحتمالات.
النص القرآني قابل لعدد من القراءات، إنه نص مفتوح، يتسع لكل النوازل، ويجد فيه علماء الشريعة متنفساً، وملاذاً.
النوازل تشكِّل قنابل ضوئية، تنير عتمة النص، وتفجِّر الدلالات الكامنة.
(المنهج التفكيكي) الحديث يتجاوز ظواهر النصوص، ودلالاتها المباشرة، والدلالات الوضعية، إلى دلالات مجازية، أو مرادفة، أو محتملة.
جِذْرُ الكلمة الثلاثي، أو غيره يعطي أصلاً واحداً، أو أصولاً عدة. و(لابن فارس) كتاب قيم، يتقصى فيه دلالة الجذور، ويؤكد أن الجذر متاح لأداء دلالات عدة، بصرف النظر عن الاشتقاق.
اللغة العربية تحتوي على أكثر من عشرة آلاف جِذْر، وأكثر من ثمانين ألف اشتقاق، وسعتها المعاجم كـ(اللسان)، و(التاج). و(القرآن الكريم) استعمل نصف الجذور، وأكثر الصيغ. هذا التعدد الدلالي، والاشتقاقي، فتح آفاقاً كثيرة، هيَّأت الأجواء لتعدُّد المذاهب، والتيارات.
المهم في الأمر سلامة القصد، وحُسن النوايا، والتماس الحق.
إن من التقوى (القول السديد)، وجزاؤه إصلاح الأعمال، ومغفرة الذنوب.
وصلاح الأعمال توفيق من الله للمجتهد، وتمكين له من الاستقامة على المأمور.
المغالطون، والفضوليون يلوون أعناق النصوص، لتوافق أهواءهم، وشهواتهم، ويفرضون على النص احتمال دلالات لا تعضدها المقاصد بحجة تجديد الخطاب الديني. والحق أن التجديد للمفاهيم السقيمة:-
وَكَمْ من عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحاً
وآفتَهُ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ
وَلكِنْ تَـأْخُذُ الآذانُ مِنْهُ
عَلَى قَدْرِ القَرَائِحِ والعُلُومِ