د.عبدالله بن موسى الطاير
بعد 45 عامًا من عضوية الاتحاد الأوروبي خلعت المملكة المتحدة الاتحاد، وعادت بكامل سيادتها إلى جزيرتها الصغيرة. رؤساء الاتحاد الأوروبي الثلاثة ديفيد ساسولي وتشارلز ميشيل وأورسولا فون دير لين أودعوا هذه اللحظة التاريخية بمقالة عشية الوداع، قالوا فيها: «مع حلول الليل في هذا المساء تغرب الشمس على أكثر من 45 عامًا من عضوية المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي. بالنسبة لنا، بصفتنا رؤساء المؤسسات الثلاث الرئيسية في الاتحاد الأوروبي، سيكون اليوم حتمًا يومًا للتأمل والمشاعر المختلطة، كما هو الحال بالنسبة لكثير من الناس».
وبدون شك فإن أوروبا تشعر بالحزن الشديد على مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي، كما أن الدول الأقل نموًّا في الاتحاد، وبخاصة أوروبا الشرقية، تشعر بالقلق من تبعات هذا الطلاق البائن؛ إذ يعمل مئات الألوف من مواطنيهم في بريطانيا، وبخاصة في مجال الخدمات والزراعة.
الزعماء الثلاثة لم يستسلموا لمشاعر الفراق، وإنما حرصوا على تعزيز روح التفاؤل، وتعظيم فائدة الاتحاد لدوله؛ فراحوا يتحدثون عن شراكاتهم التجارية مع نحو 80 بلدًا حول العالم، وطموحاتهم في مجال البيئة والتقنية والوظائف بحلول عام 2050م؛ وذلك لرفع المعنويات، وتجاوز المشاعر السلبية التي قد يتركها خروج بريطانيا.
52 % من البريطانيين - وهم الذين صوَّتوا للخروج - احتفلوا بالانعتاق من التبعية للاتحاد الأوروبي، بينما مرَّت ليلة حزينة على معارضي الخروج. إنها مشاعر مختلطة على الضفتَيْن، تؤكد حقيقة واحدة، هي أن بريطانيا لم تعد عضوًا في الاتحاد الأوروبي. هذه الحقيقة دفعت بورس جنسون للاحتفال بحذر بمغادرة أوروبا، مؤكدًا ما أنجزه من عمل للخروج من الاتحاد الأوروبي. الهوية الأوروبية والقيم المشتركة، والأمن والمصالح الاقتصادية، سوف تكون روابط تذكِّر البريطانيين بأنهم جزء من أوروبا، وتدفع الاتحاد الأوروبي لدراسة متأنية لوضع اتحادهم بعد هذه النكسة. يرى البريطانيون المؤيدون للخروج أنهم استعادوا سيادتهم، وأنهم اليوم أكثر حرية في صياغة سياساتهم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية بدون تدخُّل من الاتحاد، وأنهم استرجعوا شرف الإمبراطورية المفقود، ولكنهم يدركون أن هذه نهاية البداية فقط، وأمامهم طريق طويلة من التفاوض، وإعادة تعريف المصالح المشتركة، وطرق تحقيقها مع الاتحاد الأوروبي بصفتهم دولة أجنبية.
صحيح أن بريطانيا لم تفرط في عملتها، ولم تكن جزءًا من التأشيرة الأوروبية الموحدة «الشنجن»، ولكنهم من أجل الاتحاد قدموا جزءًا مهمًّا من سيادتهم، وأصبح قرارهم المحلي مرهونًا بأنظمة وسياسات الاتحاد الأوروبي. وهم اليوم على يقين بأن سيادتهم قد عادت إليهم؛ وبالتالي فإن سياساتهم الخارجية - وهو ما يعني منطقتنا - ستنطلق من الآن فصاعدًا من روية بريطانية خالصة، وليس بالضرورة أن تتماهى مع مصالح الاتحاد الأوروبي ودوله، وبخاصة فرنسا وألمانيا وإيطاليا. موقف بريطانيا من النووي الإيراني سيكون أقرب ما يكون إلى أمريكا، وكذلك علاقتها بدول الخليج والعراق، والحرب في سوريا. ويقيني أن التنسيق البريطاني - الأمريكي على مستوى الناتو سيكون أكثر وضوحًا. أما ما ستفي به أمريكا من وعودها للمملكة المتحدة في مجال التبادل التجاري فسيبقى رهنًا بمزاج الرئيس ترامب، وضمن شروط العام الانتخابي. وبغض النظر عن الاتفاقيات الاستراتيجية في مجالات التجارة والاقتصاد والأمن فإن الأسئلة الملحة لمواطني بريطانيا في دول الاتحاد الأوروبي ومواطني الاتحاد الأوروبي في بريطانيا هي التي تؤرق هؤلاء المهاجرين للعمل أو الاستقرار. وعلى الرغم من أن الفترة الانتقالية تنتهي بنهاية ديسمبر 2020م فإن بريطانيا قد وضعت ترتيباتها، ومنحت مَن أمضى في بريطانيا خمس سنوات حق الإقامة الدائمة والعمل، ولمن هم أقل من ذلك فرصة لإصلاح وضعهم للتسجيل كعاملين يحق لهم بعد مُضي خمس سنوات الحصول على الإقامة الدائمة.
لندن صوّتت ضد الخروج، وفي هذه المدينة الاقتصادية الكبيرة يعمل مئات الآلاف من الاتحاد الأوروبي، ولا شك أن القادمين من أوروبا الشرقية يشغلون وظائف عديدة، وبعضها مهم، وبخاصة في المجال الطبي والخدمات؛ وبذلك فإن بريطانيا تدرك أهمية عدم توجيه صدمة إلى اقتصادها باتخاذ إجراءات مختلفة مع المهاجرين الأوروبيين.