سام الغُباري
لم يكن «الحوثي» في هذه الغارة بعيدًا عن عرش بلقيس، قُبض عليه متسللاً جبال «فرضة نهم» في معركة أقل ما توصف به أنها «تقنية»، خدعة متقنة قرَّبته إلى مشارف العرش السبئي الخالد.
أما كيف فعل ذلك؟ فالإجابة ليست عسيرة: استخدم وسيلة الاتصالات التقنية التي ما زالت في قبضته لنسخ أرقام قادة الجيش الهاتفية، وتمكن عبر «أبناء عمومته في الجيش» من فك شيفرات الاتصالات العسكرية، ولما حانت ساعة انقضاضه على «نهم» اشتعلت الهواتف المستنسخة من صنعاء المحتلة لتأمر بانسحابات متوالية، فيما تم تحييد وسائل الاتصال، وحَجْب الإنترنت عن منطقة القتال، ولو لم يتدخل «التحالف العربي» سريعًا لإنقاذ الموقف بخطة بديلة لكان الوضع اليوم أسوأ بكثير مما نتخيل.
من «كرى»، وهي قرية نائية على حدود مأرب، قيل إن «الجن» تسكنها لغرابتها وعزلتها، توافدت مئات السيارات المهرولة إلى مواقع الاشتباك. كان صديقي «ناصر» يراقب وميض رصاصات كاشفة، تخترق هجعة الليل، وصدى أصوات تنشد «زواملها القبلية» آتية من هناك باتجاهه؛ فانحاز إلى جدار حانوت مغلق متحسسًا سلاحه الآلي. خامره ظن في أنهم الحوثيون. وعلى بُعد أمتار قليلة كانت السيارات تعبر أمامه غاضبة «شاخطة» مستنفرة، وعليها أولئك «الجن» الذين قدموا من «كرى»؛ فجعل صديقي يهرول وراءهم حتى توقفت بعض السيارة في محطة بنزين، فاشترى لهم على نفقته كل زاد احتاجوا إليه.
في الجهة الأخرى من مأرب هبّ آلاف المعلمين على صهوات بأسهم ملتحقين بصفوف الإسناد الشعبي للجيش. غادر معهم «ناصر» إلى هناك، وغير مرة كان يبعث إليّ برسائل مسجلة وصور مؤسفة لعناصر حوثية، جندلتهم رصاصات السبئيين الكرام.
كان المشهد ملحميًّا بمعنى الكلمة؛ ها هي «مأرب» مرة أخرى تكسر أعتى هجوم «حوثي» على جغرافيتها وتاريخها وإرثها الفاخر، أولئك الذين غرتهم «أوهام الاصطفاء الإلهي» اصطفاهم الشيطان إلى جواره في سقر؛ فكان لهم ما تمنوا من رغبة «الاصطفاء»، وهو المهم!
وإذ انقشع غبار الشائعات، واطمأن المقاتلون إلى نصر الله البيّن، كشفت شمس الخامس والعشرين من يناير عن آلاف القتلى الحوثيين مبعثرين على السفوح، وفي بطون الأودية، وعند المتعرجات الحجرية الصعبة، وقد عبثت ضباع المنطقة بأجسادهم؛ فطمست بعض معالمهم. وكانت الصور الآتية من هناك مروّعة بحق، فيما ضجت مدونات الحوثيين بما أسموه «مواكب الإباء»، وازدهر نشاط حفاري القبور على وقع نشيج عائلات وحدتها العنصرية السلالية، ودفعت ثمن عرقيتها المتكبرة دمًا من أوردة عيالها المضللين.
في اليوم الرابع للمعركة أطل «ناطق الميليشيا» ببيان معتوه، أعلن نهاية الحل السياسي «المأمول» للحرب، مؤكدًا خيار العنف كوسيلة وحيدة لبلوغ جماعته كل مناطق اليمن.
في هذه المعركة القصيرة برز «المعلم» بطلاً أسطوريًّا خبيرًا بالسلاح، ومجيدًا لمسارات القتال الصعبة.. ساند آلاف منهم جهود النقل والتخزين والتذخير وإيصال المؤونة والقتال في مواجهة «جريمة إبادة»، يمارسها الحوثيون على اليمانيين بولع لا يخلو من تراكمات تاريخية دامية.
لقد أثبت الحوثي -كما هو شأن أسلافه- أن لا مكان للسلام الحقيقي معه، وأن شعار «حقن الدم» مصطلح كَثُر تداوله حتى أصبح سمجًا ومريبًا، لا يأتي من ورائه إلا الموت، حتى باتت أيادي أبناء «مأرب والجوف» ترتد بسرعة إلى أسلحتهم المعلقة في خواصرهم -كلما قرؤوا عنه- حذر الغدر!
وإلى لقاء يتجدد.