د. محمد عبدالله العوين
كانت (الجزيرة) مدرسة صحافية تخرج فيها كفاءات مميزة في ميادين العمل الصحافي كافة، ولم يكن هاجس صحافي الجزيرة آنذاك - حسب علمي - الحصول على فرصة عمل أو التطلع للشهرة من باب العمل الصحافي وما يتيحه من لقاءات مع كبار المسؤولين وأصحاب القرار في الدولة أو البروز كتاب رأي، ما كان يدور في خلد كثيرين مطامح كهذه، فالاستغراق الكامل في العمل يغلق منافذ التفكير في كيف يمكن استغلال الصحافة للكسب أو لتحقيق مصالح، ولا يعني هذا أن كاتب زاوية قد يخرج على هذا النسق، لكن دوامة العمل تستغرق الجميع، سواء كانت عناوين سياسية مهمة في الصفحة الأولى أو تحقيقات أو أخباراً اجتماعية أو زوايا ومقالات رأي رئيسة في الصفحتين الوسطيين اللتين تحملان ترويسة الجريدة أو صفحات أدبية تعنى بشؤون الثقافة وقضايا الإبداع الأدبي.
وما يدل على أن الإخلاص للمهنة يبلغ حدا لا يمكن أن يتصوره بعض أبناء هذا الجيل من الصحافيين أن بعض غرف التحرير قد تكون غرفة نوم حين يمتد العمل إلى ما بعد منتصف الليل، ولأن عددا منا كان في ذلك الوقت عازبا فقد حدث لي ورأيت أكثر من زميل يستيقظ قبل الثامنة صباحا على قرع باب مكتبه وفي يد مأمور السنترال العم (عوض) الحضرمي الطيب كيس شفاف من البلاستيك يحوي إفطار الزميل من (البوفيه) المتخصص في عمل الكبدة الشهية بجانب مبنى الجزيرة.
الحق أن العم عوض لم يكن موظف سنترال فقط؛ فقد كان لا يتأفف من تقديم أية خدمات يكلف بها، فهو يستلم الأظرف التي تسلم له من زائري الجريدة من كتاب وغيرهم ومن طلبات القراء خارج الدوام الرسمي، ويوقظ من يضطره العمل إلى النوم في مكتبه في الوقت الذي يريد، ولا يتوقف عن عمل الشاي أو الشاي بالحليب أو القهوة والدوران بها على المكاتب، ولا يضجر من توصيل خطاب أو مقال مجاز أو عليه ملاحظات للمحرر أو لمخرج الصفحة.
كان العم (عوض) الذي يعمل بصمت إلا من كلمات قليلة خافتة تطير بها ابتسامة طيبة بمثابة الأخ الأكبر للمحررين ومستودع طلباتهم وبعض أسرارهم.
في ظل تلك الأجواء المحفزة على الإبداع لم يغب هاجس الشعور بضرورة التفوق عن تفكير رئيس التحرير فاستغل الأستاذ خالد المالك فرصة انعقاد مؤتمر قمة مجلس التعاون لدول الخليج العربية الثاني في الرياض بتاريخ 11 نوفمبر 1981م أوائل المحرم عام 1402هـ فواكبه بملحق مسائي أثار انتباه المتابعين، وواصلت هيئة تحرير الملحق إصداره بعد انقضاء المؤتمر استجابة لمشاعر النجاح الصحفي الذي شعر به الجميع، وهو ما دعا رئيس التحرير إلى التقدم بطلب إلى وزارة الإعلام بمنح الجزيرة رخصة إصدار جريدة باسم (المسائية) فصدرت الموافقة وشكلت لها هيئة تحرير، وأسند لي الإشراف على الصفحات الثقافية فيها، واستمرت المسائية عشرين عاما في الصدور، إلى أن توقفت بتاريخ 19-4-2001م. يتبع