«الجزيرة الثقافية» - محمد المرزوقي:
لم يُخفِ الأديب والناقد الدكتور محمد بن مريسي الحارثي حقيقة مشاعره تجاه بعض الظواهر الثقافية في مشهدنا المحلي، ولا تجاه بعض الملتقيات الثقافية، المؤسسي منها والأكاديمي؛ إذ استهل حديثه لـ«الجزيرة الثقافية» قائلا: مما يؤسف له حقًّا أن تصبح أولى هذه الظواهر هي «المثقف» نفسه! عندما لا يتجاوز حضوره العلمي بأنه مثقف يجيد القراءة والكتابة التي يتساوى فيها مع عامة القراء وعموم ما يكتبون!
وإذا كان د. الحارثي قد عُرف عنه عشقه البلاغي في «سك» المصطلحات، وسبك المفاهيم، ورؤيته لهذه الظاهرة اللغوية، فقد أشار إلى أن الكثير من المصطلحات يسكها «عوام» شبكات التواصل الاجتماعي؛ لـ«يتلقفها» المثقفون! ومن ثم نجد انعكاساتها في النصوص الأدبية والإبداعية، مستدركًا على هذه الظاهرة بقوله: نحن أمة، إذا أردنا أن نكون كما قال الله سبحانه وتعالى فلنكن مؤثرين ومتأثرين؛ إذ لا يضرنا أن نتأثر بالآخر بما يفيد، فما يضرنا هو الانكفاء على الذات، وعدم التواصل مع الآخر؛ فلا بد من فهم الآخر قبل أن ندلي بدلائنا إليه. فالعلم لا يصنعه أفراد، بل تراكمية، تصنعها المجتمعات والأمم، وأنبياء ورسل!
أما عن مشاركة د. الحارثي في الملتقيات الأدبية، ورؤيته إليها من خلال عنونتها، بوصفها «أُطرًا»، قد ينقصها العمق، أو الشمولية للموقف، أو الجدة «العملية» في التناول.. فعلّق قائلاً: هي من قبيل ظاهرة «قُل ولا تقل» التي تعد إحدى ظواهر المشهد العربي أدبيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا وغيرها؛ فالمشاركة في ملتقى ما تعني أن تتعامل مع عقول الناس، لا مع عقلك! لأن الناس يطلبون منك، ومن هنا أنت أمام أداء معرفة «موجهة»؛ فهي حالة لا تستحق الكتابة ولا الحضور، ولا تستحق المناقشة؛ لأن الكتابة يجب أن تنطلق من صميم المجتمع وقضاياه المثارة، فهذا العلم! وهذه المعرفة! أما أن يطلب مني نادٍ أو مؤسسة ثقافية أن أقول لهم كذا أو كذا فلستُ أجيرًا كاتبًا لديهم؛ فمن أراد مشاركتي فلتكن من قبيل: اكتب ما يشغلك أو يشغل قضايا الناس.
وفيما لا يزال لدى د. الحارثي الكثير من الأبحاث والمؤلفات المخطوطة إلا أنه خلال حديثه لـ«الثقافية» تحدث عن اشتغالاته العلمية خلال هذه الفترة، قائلا: منذ مدة أجمع العديد مما بحث وكتبت فيه عن قضايا نقدية مهمة. كنت أطالعها بين الفينة والأخرى حول الثقافة، إلا أنها ليست من خلال ما تعارف عليه ممن كُتب في هذا المجال؛ فلدي مفهوم «جديد» في رؤيتي لمفهوم الثقافة، لم يسبق لباحث طرحه، أو يسبق تناوله في دراسة، وإنما مفهوم اشتغلت عليه برؤية جديدة، وسبق أن طرحته في بعض محاضراتي التي ألقيتها. والذي أجزم أنني سأصدر قريبًا كتابًا في هذه الرؤية الجديدة التي اختططت منهجها، الذي وصلت معه إلى المراحل الأخيرة من تأليفه ومراجعات مباحثه، الذي سأصدره - بمشيئة الله تعالى - بعنوان: «الثقافة الكونية في القرآن العظيم».
أما عن ملامح الجدة في الإصدار فقد وصفها د. الحارثي بقوله: هي رؤية جديدة حتمًا، لم يسبقني فيها أحد مما توصلت إليه وفقًا لمنهجية خاصة، ولمفاهيم خاصة للثقافة، مما دار على فكري، وجرى به لساني في بعض محاضراتي؛ ما يجعل من التعريفات والمفاهيم التي سيضمها الكتاب مما أخص به رؤيتي وجهدي البحثي دون غيري؛ لأنني - أيضًا - انطلقت باحثًا عن مصادر الثقافة الكونية بمفهوم جديد، ومنها - على سبيل المثال - لا الحصر: ثقافة الملائكة، ثقافة الإنسان النبي، ثقافة الإنسان العادي، ثقافة الحيوان، ثقافة الجن.. إلخ، حيث قمت بالجمع من جميع المصادر، وكل المثقفين في القرآن العظيم.
وأضاف د. ابن مريسي: هذا في تصوري ليس مجرد إصدار، بل هو من خلال الرؤية التي أسست لها في تأليفه بمنزلة «مشروع» علمي يحتاج إلى صبر، وجَلَد، وسعة بال؛ لأن الفكرة في تأليفه ليست مسألة استقصاء، وإنما لأرسم خطًّا منهجيًّا، وأؤسس برؤية علمية جديدة خارطة ممنهجة لمن يأتي بعدي؛ ليفيد من طريقتي، ومن المادة الثقافية التي أقررتها في الكتاب، إلى جانب حرصي من خلال هذا الإصدار على أن يكون بمنزلة الخطوة الأولى التي تؤسس للباحثين من بعدي مسيرة الميل الثقافي الجديد، من خلال معرفة جديدة، ورؤية مختلفة، قمتُ بتحرير مفاهيمها مبتكرًا رؤية غير مسبوقة، سواء اتفق معي من اتفق، أو اختلف مع رؤيتي من اختلف.
وختم د. الحارثي حديثه في هذا السياق قائلاً: من قرأ كتابي «في ديوان البلاغة العربية» سيجد أنني «هجمت» على البلاغة هجمة غير مسبوقة، وسيظن البعض مبدئيًّا لمن لم يقرأه أنني كنت كما جرت عليه عادة الباحثين في البلاغة منضمًّا إلى قافلة الدراسات البلاغية المؤيدة، وما أكثرها! إلا أنني نقضت أكثرها، وهذا من الجديد في رؤيتي للبلاغة؛ ما يجعل كتابي المقبل إلى المشهد الثقافي امتدادًا لهذه الرؤية الجديدة التي سيجد فيها القارئ جديدًا، أو ما يطمح إليه مما يعكس مسيرة علمية بحثية، ينتظر منها القارئ ما يضيف إليه؛ لأن من أولى أولوياتي تحرير المفاهيم، وأن نصنع مفاهيمنا بأنفسنا، ولثقافتنا العربية، التي نحاور من خلالها وبها الآخر.